هيفاء زنكنة
24 اكتوبر 2009
القدس العربي
هناك التباس في فهم معنى هيمنة المحتل، السياسية والمجتمعية والاقتصادية، في الحقبة الحالية، أي التي تلت توقيع الاتفاقية الامنية طويلة الأمد واتفاقية الاطار الاستراتيجي في العام الماضي. وافضل اطلاق تسمية الاستعمار الجديد او النيو كولونيالية على هذه الحقبة لاختلافها، في مستويات عدة، عن مرحلة الاحتلال العسكري المباشر. وهو اختلاف يستدعي الرصد والتحليل وبالتالي بناء القدرة على مقاومته، لأن تجنب النظر اليه باعتباره احتلالا لم يتغير، ودفعه جانبا لأنه غير ذي اهمية، قد يوقعنا في اخطاء استراتيجية نحن في غنى عنها
.
لقد تم توقيع الاتفاقية الامنية طويلة الامد واتفاقية الإطار الاستراتيجي ' لتطبيع العلاقات الأمريكية
العراقية في مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية' بين المحتل الامريكي وحكومة الاحتلال الرابعة يوم 17 / 11/ 2008، والتي تنص الجملة الاولى فيهما بوضوح كبير على أن : ' تحمي الاتفاقيتان مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط '.
وهذه المادة هي جوهر الاتفاقية مهما حاولت الادارة الامريكية وصنيعتها العراقية ايهامنا بغير ذلك. غير ان الاتفاقيتين وعلى الرغم من تطابق جوهرهما مع اهداف الاحتلال العسكري المباشر الا ان اساليب التطبيق استبدلت بما اطلق عليه وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس مصطلح ' القوة الناعمة' وما يدعو اليه ديفيد بترايوس، القائد العسكري الامريكي السابق في العراق في مخططه لمحاربة ' التمرد'، وهو ما تفضل ادارة اوباما اتباعه بعد سحب بعض قواتها العسكرية، في حربها الشمولية، من الجبهة العراقية الى جبهة افغانستان وباكستان.
وبما ان ادارة الرئيس اوباما قد قررت، بموافقة عبد المأمور نوري المالكي، على ابقاء حوالي 50 ألف كمستشارين ومدربين، لتطبيق الاتفاقيين فان من الضروري تفكيك عمامة الالتباس المحيطة باستمرارية وجود المحتل. الاستمرارية الناتجة عن عدم تحقيقه الانتصار العسكري السريع المؤمل وانسحابه الى جهات حرب توسعية اخرى بعد تعيين ادارة محلية من ساسة الاحتلال العراقيين للهيمنة على البلاد ومواردها مع اقل ما يمكن من التكلفة المادية والبشرية بين قوات المحتل، عودة الى تفكيك الالتباس المختلط بقوة بالتضليل الاعلامي.
اذ يدافع البعض عن طرفي الاحتلال اللذين ارتبطا بمصالح مشتركة، حاليا على الاقل، وهما الولايات المتحدة الامريكية والمتعاونون معها من العراقيين تحت مسمى ' الحكومة العراقية'. يقول المدافعون بان الحكومة الامريكية لا تفرض على الحكومة العراقية ما تريده وان الحكومة العراقية لا تنفذ بالضرورة ما تريده الحكومة الامريكية ومن هنا منبع التناقضات في المواقف وبطء تشريع وتنفيذ القوانين بل ويذهب البعض في المجادلة الى حد اعتبار بطء التشريعات وعدم تنفيذها بانه نوع من المقاومة السلمية ضد المحتل وان هذه الخطوات هي التي ستؤدي او ادت الى جلاء المحتل. والجواب الواضح على أصحاب المنحى الذرائعي، هو انهم انما نجحوا، حتى الآن، في شرعنة الاحتلال وتحويله من احتلال عسكري مباشر الى احتلال مستديم وان اعتراضاتهم واحتجاجاتهم على هذه المادة او تلك من الدستور او القانون أو وقوفهم على خشبة مسرح البرلمان ضاربين بدفاترهم على الطاولات، انتهت كلها بالتوقيع على التشريعات المطلوبة، اثر زيارة ' غير متوقعة' لاحد المسؤولين الامريكيين ( نائب الرئيس الامريكي جو بايدن هو عصا ادارة المستعمرهذه الايام ) وبعد خفوت الضجة الاعلامية .
ولعل افضل الامثلة هو اكذوبة توقيع الحزب الاسلامي على اتفاقية العبودية الامنية ' بشرط اجراء استفتاء شعبي' في شهر تموز/يوليو 2009، والا اعتبرت الاتفاقية باطلة، او هكذا اوهم الحزب الاسلامي اتباعه وبقية المواطنين. ومر شهر تموز وغيره من الشهور ودفن شرط الاستفتاء الشعبي في مقبرة اكاذيب ساسة الاحتلال. وكانت أكذوبة مشابهة قد استخدمت لتمرير الدستور، إنتهت وقتها بتفجير مقرات الأحزاب المتواطئة.
وما كانت هذه الاكاذيب المهددة لوحدة الوطن وسيادته وكرامة مواطنه ستمر لولا اعتماد الذرائعيين، لانجاح زيف ادعاءاتهم، على انشغال المواطن بهمومه اليومية. وهي الهموم التي عمل المحتل وساسة الاحتلال، بقوة، على ابقائها كما هي لئلا يلتقط المواطن أنفاسه وتصبح لديه فسحة وقت ليفكر ويحاسبهم على ما يرتكبونه باسمه. ولعل اهم ذرائعيي الاحتلال المستديم، هما الحزب الشيوعي الذي إنتقل من التبعية الشرقية قديما للغربية حاليا، وأكل شعارات معاداة الامبريالية مع قدح من عصير المحاصصة والحزب الصدري (لا ادري من اين اتاه لقب التيار؟) الذي يشبه تأرجح مواقفه وقائده الغائب لقرض الشعر والتحصيل الدراسي المفاجىء، مراهقا يعاني من عدم التوازن العقلي.
ففي ظل الاستعمار الجديد وضمن اتفاقية الاطار الاستراتيجي لحماية مصالح الهيمنة الامبريالية في العراق، بعيدا عن الاحتلال العسكري المباشر، وضمن الوجوه المتعدد للاحتلال 'الناعم'، يمتد أخطبوط هيمنة الشركات الاحتكارية الكبرى، تحت مسمى الاستثمار او الاقتصاد المفتوح باعتباره الطريق الوحيد لبناء العراق بعد ان تم القضاء، تدريجيا على الصناعة الوطنية، واغراق الاسواق بكل انواع البضائع المستوردة بحجة عدم قدرة الصناعة الوطنية على مجابهة تحديات السوق وعجزها عن التحديث بدون الاشارة الى ان قتل الصناعة الوطنية والخدمات العامة في مجالات التعليم والصحة والمواصلات والماء والكهرباء والاسكان وتهجير ذوي الكفاءات قد تم بشكل مخطط له من قبل المحتل الذي وجه للصناعة والتنمية والخدمات الضربة القاضية بعد سنوات الحصار الجائر، ومع استمرار الاهمال المقصود بعد الاحتلال. وعلى الرغم من توفر الاموال الطائلة والامكانية البشرية لو توفرت النية، ليبني على خرابها المتعمد نظام الخصخصة لصالح شركات احتكارية باتت تتجاوز الحكومات والدول لتتكاثر ارباحها على حساب الشعوب. كما لا ينسى دور الفساد الذي رعاه سياسيو الاحتلال حتى بات العراق على رأس قائمة الدول الاكثر فسادا في العالم. وهاهو نوري المالكي يقف في واشنطن منذ ايام معلنا بان العراق كله 'مفتوح للاستثمار'، اي البيع أرضا وموارد وبأرخص الاسعار، أي كخردة كما فعل بول بريمر في عام الاحتلال الاول. ويعتبر قرار السماح ببيع الاراضي للاستثمار الاجنبي، في مرحلة النيو كولونيالية، خطوة خطيرة يجب التنبيه اليها.
ان ما يقوم به المستعمر واعوانه، في هذه المرحلة، هو تكريس صورة واقع لايمكن النهوض به من قبل العراقيين انفسهم بتبريرات تتراوح ما بين كونهم قليلي خبرة او لان الآلات والمعدات اللازمة لانجاح اي مشروع او مبادرة غير متوفرة وبالتالي يصبح من المنطقي ان تقوم حكومة المالكي او غيره بطرح 'الحل الوطني الوحيد' لانقاذ العراق وتحسين اوضاع شعبه وهو القبول بما يعرضه المستعمر من 'مشاريع وبرامج' مع مراعاة وجود بعض الاصوات المعترضة من بين المتعاونين معه امتصاصا للغضب الجماهيري من جهة وتلميع صورة 'الوطنيين' الحريصين على المصلحة العامة من جهة اخرى. فيكون الدور الاساسي للمستعمر واعوانه في المرحلة الجديدة هو ليس القتل الجسدي لابناء الشعب وكما فعل في فترة الاحتلال العسكري المباشر، بل سيكون قتلا من نوع آخر. انه قتل روح المبادرة في العمل المجتمعي ودفع الجميع الى الاحساس بالعجز العام والقبول بالمستعمر كقوة قدرية.
وبينما تعمل الاتفاقيات بعيدة الامد بين الحكومة المحلية والمستعمر على اضعاف الحراك المجتمعي وتجهض المبادرات المجتمعية والفردية الوطنية، تستحدث الاتفاقيات وتؤسس منظمات مجتمع مدني ومؤسسات بحوث ودراسات وورشات تدريب القياديين والقياديات ومنظمات المرأة وكلها تعتمد على الدعم والتمويل المالي المشروط الذي يربط هذه الكيانات بالمستعمر بحبل سرة مهدد بالقطع حالما تحاول الخروج على الشروط المفروضة لايجاد طريق يتلاءم مع حاجات وطموحات الشعب الحقيقية.
هيمنة المستعمر، اذن، لاتتحقق بدون سلب الارادة الوطنية وقتل روح المقاومة من خلال خلق بيئة تحث على التواطؤ معه والقبول به استنادا اما الى عذر 'اذا لم اتعاون انا سيتعاون غيري' أو تبرير 'وهل نحن افضل من الدول العربية الاخرى؟' فضلا عن ترسيخ وجود المستعمر باعتباره الحل الوحيد للتقدم عبر حملات الاقناع والترغيب من جهة والتخويف من عودة النظام السابق و'الارهاب' من جهة ثانية. وتهدف الادارات المحلية ' المنتخبة' للمستعمر الى اقناع الناس بان القبول بوجود المستعمر هو الذي سيساعدهم على تحسين اوضاعهم وانه باق لفترة قصيرة (هل تتذكرون تصريحات الحكيم عن الخط الاحمر والتخلص من المحتل خلال ستة اشهر؟) ستنتهي حالما يتم تدريب طبقة مؤهلة للحكم. وكأننا لم نمر بهذه التوليفة سابقا.