استخدام الشهداء للمقايضة السياسية في العراق المحتل
تشير الاحصائيات الرسمية المتوفرة بان عدد من خسرناه من جنودنا المقاتلين في الحرب العراقية - الايرانية (1980 1988)، قد تجاوز المئة ألف وان مجموع ضحايا الحرب بين الجانبين قد بلغ نصف مليون وان اعداد الجرحى والمعوقين كبيرة وان لا تتوفر احصائيات دقيقة عن اعدادهم في كلا البلدين.ولن يتسع المجال هنا للحديث عن مسؤولية من الذي شن الحرب او أسبابها ولا من هو الذي حصد جائزة النصر، ويكفينا ان نعلم ان اسم الحرب ذاتها غير متفق عليه. فهي، حسب تسميات ايران 'الدفاع المقدس' و'الحرب المفروضة' وحسب تسمية العراق 'قادسية صدام' وحسب تسمية الدول العربية والغربية 'حرب الخليج'. وتم تغيير الاسم في ما بعد الى 'حرب الخليج الاولى' عندما وصلتنا سموم الحرب الثانية. غير ان هناك حقائق متفقا عليها بصدد الحرب. من بينها ان المستفيد الاول والأخير من حرب الثماني سنوات هي الدول المنتجة للأسلحة وتقنية الحروب وعلى رأسها امريكا وبريطانيا وبمساهمة من اسرائيل. وقد لخص هنري كيسنجر في حينها استراتيجية السياسة الامريكية في المنطقة عندما قال 'من المؤسف الا يخسر البلدان سوية'. ومن بين الحقائق المتفق عليها، ايضا، هي ان مائة ألف جندي عراقي قد دفعوا حياتهم ثمنا في الحرب وانهم خلفوا وراءهم زوجات واطفالا ان لم يكن امهات وآباء وربما اقارب من المعوزين. وقد قامت الحكومة العراقية بواجبها في رعاية عوائل الجنود من ضحايا الحرب وكذلك المصابين والمعوقين ووفرت لهم الراتب وبعض المساعدات التي تقيهم العوز وتوفر لهم عيشا معقولا تحت اسم 'عوائل الشهداء'. أما بعد غزو العراق في عام 2003، فقد قامت حكومة الاحتلال في عام 2006، بتأسيس 'مؤسسة الشهداء العراقية' الملحقة برئاسة الوزراء، ويحظى رئيسها من الناحية الرسمية بدرجة وزير. وقد يتبادر الى ذهن البعض بانها تمثل عوائل الشهداء العراقيين جميعا، غير ان مراجعة سريعة لتركيبتها واعمالها وقانون تشكيلها تعطي صورة مختلفة تماما.وقد برز اسم المؤسسة اعلاميا، اخيرا، بعد ان تظاهر، يوم الاحد الماضي، أمام مبنى دائرة تقاعد النجف، عشرات المتظاهرين من ذوي ضحايا الحرب العراقية ـ الايرانية، احتجاجا على قرار اصدرته وزارة المالية، لإلغاء صفة 'الشهيد' عن القتلى ليصفهم بانهم 'متوفون مدنيون'، وهو أمر غريب حقا عن مجندين أو ضباط في الجيش.وقد احتج المتظاهرون لسببين: الاول معنوي عبرت عنه احدى المتظاهرات قائلة: 'هل هذا جزاء من يدافع عن الوطن؟'. والسبب الثاني مادي، اذ يعني القرار اما قطع الراتب او تخفيضه. وقد تحدثت احدى الأمهات من على شاشة احدى القنوات الفضائية قائلة بان راتبها كان 290 ألف دينار وصار الآن 75 ألف دينار شهريا. وقد سارعت وزارة المالية الى القول بانها ستستمر بصرف الرواتب بينما اشارت مصادر صحافية اخرى الى أن هذا القرار 'يرجع إلى مؤسسة الشهداء العراقية'، التي نفت بدورها علاقتها بالقرار، وقال مسؤول فيها 'إن المؤسسة تهتم بأمور ضحايا النظام السابق فقط ولا علاقة لها بشهداء الحرب العراقية ـ الإيرانية'. وهي نقطة مهمة تمتد الى تعريف الشهيد نفسه. اذ تشير المادة (5) من قانون تشكيل هذه المؤسسة التابعة لمجلس الوزراء الى ان الشهيد هو: 'كل مواطن عراقي فقد حياته بسبب معارضته للنظام المباد في الرأي او المعتقد او الانتماء السياسي'، وهذا يعني الفترة من 1968 ولغاية 2003. والسؤال هو: ماذا عن المليون عراقي الذين فقدوا حياتهم جراء الاحتلال الانجلو امريكي الصهيوني منذ عام 2003 وحتى اليوم؟هل هم مجرمو حرب؟ومن الذي سيعوض او يرعى ذويهم؟ ومن الذي يحدد صفة الشهيد وكيف وما هي المعايير المتبعة؟ان مؤسسة الشهداء الحكومية وقانونها يشير الى ان سرطان المحاصصة الطائفية والعرقية التي ابتلي بها الاحياء من العراقيين لم يسلم منه حتى الموتى في 'العراق الجديد'. فلكل حزب طائفي او عرقي 'شهداءه' و'مؤسسته' التي ترسخ ولاءه لحزب او طائفة دون غيرها ولاعلاقة لها بالعراق ككل ولا بالمواطنين ككل ولا بالشهداء انفسهم. ويتبين من متابعة عمل المؤسسة، مثل غيرها، بان جوهر المحاصصة على 'الشهداء' هو المتاجرة بالضحايا الذين ما ان يطالبوا بحقوقهم المشروعة حتى تواجههم اعذار قلة الامن والارهاب وقلة المخصصات المالية، وان 'الكثير من العقليات الموجودة في الدولة هم عقليات بعثية' حسب رئيس المؤسسة. بينما تتقاسم الوزارات الاحزاب الطائفية التي عادت مع الاحتلال، وتكفلت حملات التصفية الجسدية والترويع وقانون اجتثاث البعث بتفريغ الدولة من 'العقليات البعثية'. ويأتي تصريح رئيس المؤسسة معبرا عن موقف حكومة الاحتلال من قتلى الحرب العراقية ـ الايرانية الذين، غالبا، ما يتم تجريدهم من عراقيتهم باعتبارهم قد قاتلوا في 'قادسية صدام العدوانية' ضد ايران.ان صلافة مسؤولي حكومة الاحتلال ومؤسساتهم الطائفية تكيل بمكيالين وتستهين بالقيم الاخلاقية والوطنية وحتى العسكرية المتعارف عليها في جميع انحاء العالم، حيث يجري تجنيب الضحايا والشهداء تبعات الصراعات السياسية المتوالية التي ليست لديهم علاقة بها. ولننظر الى مثالين لهما علاقة بالعراق حاليا. فها هي امريكا، سيدة المسؤولين في حكومة الاحتلال، لا تكف عن تكريم جنودها وتسجيل اسمائهم في لوحات شرف وجداريات وتقيم الاحتفالات الرسمية العسكرية والمجتمعية لإحياء ذكراهم ويزرعون الاشجار باسمائهم، مع أن المجتمع الأمريكي غير متفق على الحروب التي سقطوا فيها. وقامت حكومة بوش برفع اكرامية عائلة الجندي الامريكي المقتول او' الشهيد' في العراق من 6000 دولار، في عام 2003، الى نصف مليون دولار في عام 2005 مع اعفاء المبلغ من الضريبة. وقد صوت الكونغرس الامريكي بالموافقة لصالح العوائل بالاجماع بدون ان يعترض احد بحجة ان الجنود قتلوا دفاعا عن 'حرب الطاغية جورج بوش'. فاذا كان هذا اسلوب تعامل امريكا الغازية المعتدية باعتراف كبار القانونيين الدوليين، مع جنودها، فلماذا تنكر المعاملة ذاتها على الجنود العراقيين وعوائلهم؟ ولماذا تمت تصفية العسكريين باصنافهم الذين شاركوا في الحرب العراقية ـ الايرانية؟ ألا يعلم مسؤولو حكومة الاحتلال بان من واجب الجندي المقاتل اطاعة الاوامر مهما كانت والا تعرض للعقاب في محاكم عسكرية خاصة؟ ولننظر الى المثال الثاني وهو ايران، لنر كيف تتعامل مع قتلاها في الحرب العراقية ـ الايرانية ومع ذويهم الآن، استنادا الى زيارة قام بها وفد 'رفيع المستوى' من مؤسسة الشهيد العراقية الى ايران. اذ توجد مؤسسة الشهيد الإيراني ومجلس رعاية ذوي شهداء ايران. ولابناء الشهداء اولوية في الحصول على البعثات والدراسة الجامعية، وتكون لعوائل الشهداء الاولوية في اجراء عمليات القلب والشرايين اضافة الى العلاج المجاني ويحجز لعوائل الشهداء في المحافظات البعيدة، هاتفيا، في مستشفيات معينة. وهناك مجموعة من الاطباء الذين يقومون بعمل ميداني هو زيارة عوائل الشهداء في منازلهم ويكون كل طبيب مسؤولا عن (100) مريض. وتتوضح الامور اكثر اذا ما علمنا بان وفد مؤسسة الشهداء العراقية قام بتوقيع اتفاقية مع مؤسسة الشهيد الايراني للعمل المشترك. فهل نستغرب ان تقوم 'مؤسسة الشهداء العراقية' بالعمل على اسقاط صفة الشهيد عن الجندي العراقي وجعله حكرا على الجندي الايراني وان قاتلا في الحرب ذاتها؟