امرأة من العراق
كنت قد انتهيت من قراءة رواية «الحفيدة الأمريكية»- والتى احتلت مكانا على القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية- للكاتبة العراقية إنعام كجه جى، والتى تحكى عن التحاق زينة الأمريكية من أصل عراقى بالجيش الأمريكى الذى توجه لإنجاز مهمة مقدسة وهى «تحرير» العراق! ويبدو أن قصة الرواية لفتت أنظار النقاد بشدة مما دفعهم إلى إعطائها هذه المكانة رغم أن الرواية لا تغوص فى عمق الشخصيات كما ينبغى.
وكأن التوقيت يلعب دورا أقوى من الصدف مجتمعة، ففى ذلك الوقت- الأسبوع الماضى أو ما يزيد قليلا- وبمجرد انتهائى من قراءة الرواية، كانت الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة قد دعيت من قبل الجامعة الأمريكية لإلقاء سلسلة محاضرات عن وضع النساء فى العراق الآن وعن الأدب العراقى فى اللحظة الراهنة بشكل عام.
فكان أن قام قسم اللغة الانجليزية بجامعة القاهرة بدعوة الكاتبة لإلقاء محاضرة عن الكتابات العراقية فى المنفى. الا أن الحديث عن الأدب العراقى الآن لا يمكن أن يتم بمعزل عن سياق الاحتلال الأمريكى ولا بمعزل عن كل الذين باعوا العراق تشجيعا لإقامة المشروع الليبرالى الجديد الذى يسعى لمحو مفردة الاحتلال من قاموس الذاكرة العراقية، وقد كان للصحفية نور الهدى زكى نصيبا من غضب بعض العراقيات فى برنامج حوارى على إحدى الفضائيات عندما أكدت أن الاحتلال الأمريكى زاد أوضاع النساء سوءا.
تحدثت هيفاء زنكنة عن الأوضاع المتردية فى العراق لغياب القانون، الوضع الذى يؤدى إلى انتشار العنف بلا ضابط أو رابط، وهو أمر ليس مقصورا على المستوى السياسى كما قد نتوهم جميعا، بل هو العنف الذى امتد إلى أشد مناحى الحياة خصوصية. ومن هنا تتفتت الروابط الاجتماعية وتسقط فى هاوية بلد سلبت ذاكرته الوطنية يوم ترك المتحف الوطنى مفتوحا لكل أشكال السلب والنهب.
كانت هيفاء زنكنة تعود لالتقاط خيط الكتابة والثقافة كلما أفلت منها، فقالت إن من أكثر المفارقات التاريخية السياسية التى لابد أن تسجل فى الذاكرة هو ما حدث أثناء حصار الفالوجا، أو بمعنى أدق مجزرة الفالوجا التى سببها الأمريكان. فقد عادت قى تلك الآونة قصيدة معروف الرصافى عن الفالوجا للظهور وهى تلك القصيدة التى كتبها عام ١٩٤١، وقام الشباب العراقى بإعادة نشر القصيدة على الإنترنت وفى الاجتماعات وعلى التليفون المحمول للتذكير بأمجاد الفالوجا، فما كان من الأمريكان إلا أن قاموا بمنع القصيدة! وكان سياق الحديث يدور حول الديمقراطية وحرية الرأى والتعبير التى يلهج بها اللسان الأمريكى ويعيب غيابها عند العرب.
طرح على المتحدثة عدة أسئلة فى نهاية الحديث وكانت إجابتها فى غاية الدلالة. فكان هناك سؤال عن معنى الكتابة من المنفى، وإن كان ذلك يؤثر بشكل ما على رؤية الكاتبة. فأجابت أنها تقيم فى المنفى لكنها تكتب دائما عن الوطن، ولأن كلمة الوطن فى اللغة الإنجليزية تعنى كلمة منزل بالعربية فقد بدت الإجابة مغلفة بالكثير من الشجن.
أما السؤال الآخر فقد كان عن سبب توقفها عن الكتابة، إذ إنه لم يصدر لهيفاء زنكنة أى شىء بعد رواية «مفاتيح المدينة» التى صدرت عام ٢٠٠٠. أثار صدق الإجابة إعجابى بشدة (وهى السمة التى علق عليها معظم الحاضرين)، إذ لم تحاول المتحدثة أن تزين كلامها أو تضفى عليه أى غموض فلسفى و لم توظف أى فذلكة ثقافية من النوع المفضل لدى المثقفين.
فقد كانت مباشرة وصادقة بهدوء وبدون ادعاء، فقالت إن ما يحدث الآن فى واقع العراق أقوى بكثير من قدرة الخيال، الواقع أشد قسوة وأكثر إمعانا فى اللامعقول مما يجعل له الغلبة على الخيال الروائى، ومما يجعل الكتابة تتراجع لتفسح المجال لهذا الواقع الذى يقول الكثير ببلاغة تفوق بلاغة الأدب، كما أن الكتابة تحتاج دائما لمسافة لم تتوافر بعد لتلاحق الأحداث. هيفاء زنكنة امرأة من العراق تشهد على ما يحدث ولا تهرب من الواقع ولا تسعى إلى قلب الأوضاع كما يحاول الكثيرون .
هيفاء زنكنة امرأة متخلصة من الأوهام المدمرة: فهى تسمى الاحتلال باسمه ولا تدعى فى الوقت ذاته أن ما كان قبل ذلك هو أزهى عصور الحرية كما يقول البعض. لا تسقط زنكنة فى الفخ الذى حذر منه الراحل إدوارد سعيد حين قال إن مناهضة القوات الأمريكية تعنى تلقائيا مساندة الديكتاتورية بكل أشكالها، وكأننا لابد أن نتخندق مع أحد الأطراف.