محمد عارف
مستشار في العلوم والتكنولوجيا
alitihad.ae
"الذي يَعلَمُ لماذا يُبقي على ما يعلمه مخفياً؟". ذلك سؤال تطرحه حكمة سومرية عمرها نحو خمسة آلاف عام. لماذا؟ هل نقول إننا نخفي ما نعلمه امتثالا للنصيحة السومرية: "لا تخبر الآخرين عما يؤلمك"؟ وما العمل إذا كان ما يؤلمنا يفرحنا؟ هذه هي أخبار المجتمع العلمي العراقي. "تقطع قلبك قسمين، فاختر الحكمة أو خذ الجنون"، كما يقول الشاعر الفرنسي "أراجون".
وقد حدث في الأول من هذا الشهر ما يُفرح ويؤلم في آن معاً. فقد صدر تقرير رسمي في بغداد عن "اجتماع عقده وزراء التعليم العالي والبحث العلمي، والنفط، والعلوم والتكنولوجيا، لمناقشة انضمام الأكاديمية الوطنية العراقية للعلوم إلى المجمع العلمي العراقي". وذكر التقرير أن الاتفاق تم "على رفع مقترح لدولة رئيس الوزراء يتضمن أن تتكامل الأكاديمية ضمن المجمع العلمي العراقي وفي إطار تشكيلاته وتكون من هيئاته العاملة".
هل يدل هذا القرار على عودة الوعي لعلماء عراقيين أفقدهم الاحتلال صوابهم فأعلنوا في لندن عام 2003 عن تأسيس الأكاديمية، وعزمهم على إلغاء "المجمع العلمي العراقي"؟ كتبت هنا آنذاك أن الإعلان يجعل المرء، كما يقول المثل الساخر، "مثل الأطرش، يضحك للنكتة مرتين، يضحك مرة لضحك الناس، وثانية عندما يشرحون له النكتة". والضحكة الأولى للإعلان عن تأسيس الأكاديمية العراقية في لندن، عاصمة البلد الذي انتهك القوانين الدولية باحتلال العراق، والضحكة الثانية لقرار مسؤولي الأكاديمية التي لم تؤسس بعد إلغاء "المجمع العلمي العراقي"، والذي كان عند تأسيسه عام 1947 أول أكاديمية علمية في الشرق الأوسط. واحتج عليّ آنذاك رئيس الأكاديمية، الذي أصبح فيما بعد وزير النفط الحالي الموافق على القرار أعلاه!
ويُفترض أن تكون للمجتمع العلمي العراقي الضحكة الأخيرة لولا أن "المعاناة عندما تتجاوز درجة معينة يغلب على الرجال نوع من اللامبالاة كالأشباح"، حسب الأديب الفرنسي فكتور هوجو. وكيف يبالي بالقرار المجتمع الذي بلغ عدد قتلاه في الأسبوع الماضي 418 عالماً ومهندساً وطبيباً وأستاذاً جامعياً، وعدد المختطفين والمختفين 75. الضحية الأخيرة أستاذة قانون في جامعة الموصل، وعلى غرار معظم نساء العلم القتيلات في العراق، لم تعلن وكالات الأنباء اسمها.
وصدر بيان قبل أيام عن حادث اختفاء عالم الفيزياء النووية إسماعيل خليل جاسم التكريتي، الذي كان مقيماً في ليبيا، وعاد إلى العراق بعد ترشيحه من قبل الحكومة العراقية لتولي رئاسة جامعة تكريت. وذكرت منظمة "براسل ترايبونال" BRussells Tribunal، وهي منظمة أوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسيل، تتولى بالتعاون مع "رابطة التدريسيين الجامعيين" في بغداد إحصاء وتوثيق قتلى ومختطفي المجتمع العلمي العراقي، أن التكريتي غادر منزله في منطقة الجادرية في بغداد قبل أربعة أشهر، ولم يُعثر على أثر له منذ ذلك الحين. وقالت المنظمة الأوروبية إن الجادرية تحت سيطرة مليشيا "منظمة بدر" التابعة لعبدالعزيز الحكيم.
وفي أوضاع كهذه كيف نعتب على تكريم عدد من ألمع علماء العراق، ليس في بغداد بل في واشنطن؟ بادر إلى ذلك "المكتب الثقافي" في السفارة العراقية بالتعاون مع منظمة "أكاديميات العلوم الوطنية" في الولايات المتحدة. وساهم في تكريم "العلماء المعمرين"، كما أطلق عليهم، علماء عارضوا الاحتلال الأميركي للعراق، وبينهم زينب البحراني، أستاذة كرسي علم التاريخ والآثار والدراسات العليا في "جامعة كولومبيا"، والتي شنت حملة إعلامية دولية فضحت الدمار الذي ألحقته القوات الأميركية بالآثار العراقية.
وساهم في الاحتفال زميلها قيس الأوقاتي الذي يشغل كرسي أستاذ الطب في "جامعة كولومبيا"، والمشهور بأبحاثه في "الخلايا الجذعية" التي تستخدم في تصنيع أعضاء بشرية وتنمية أنسجة حية لاستبدال الأجهزة التالفة في الجسم. والأوقاتي الذي تخرج من كلية الطب في بغداد هو أحد القلة من العلماء العالميين الذين كتبوا في المجلات العلمية يفضحون الآثار الصحية لفرض الحصار على العراق في تسعينيات القرن الماضي.
ومعظم العلماء الذين جرى تكريمهم، أطباء متخرجون من كلية الطب في جامعة بغداد، وبينهم صلاح العسكري الذي حقق رقماً قياسياً عالمياً في زرع الكلية. أجرى العسكري عام 1967 أول عملية لزرع كلية لامرأة، وما تزال كليتها المزروعة تعمل بنشاط بعد مرور 41 عاماً أنجبت خلالها أبناءً وأحفاداً، وهي واحدة من أطول الأشخاص الذين أجريت لهم عملية زرعِ كليةٍ، في العالم، بقاءً على قيد الحياة.
وشغل العسكري عدداً من أهم المراكز الأكاديمية الطبية في الولايات المتحدة، وانتخب عام 1997 رئيس مجلس أمناء جامعة نيويورك، وعمل فترة ثلاثين عاماً رئيس لجنة الترقية في الجامعة نفسها. ويستخدم العسكري الذي بلغ الثانية والثمانين من العمر، مصطلحات كرة القدم في نصيحته للجيل الجديد من أطباء بلده: "اعمل بقوة، وهدّف إلى الأعلى، وآمن أنك من أفضلهم"!
وأود لو أنقل هنا نصائح أربعين عالماً عراقياً معمراً للأجيال الجديدة من العراقيين. وقد أعجبتني النصيحة "الأنانية" لعالمة الفلك مي عارف قفطان التي احتفلت العام الماضي ببلوغها الثمانين من العمر: "المكافأة الوحيدة التي تستحق البحث هي السعادة الشخصية والرضا بالعمل المنجز جيداً". ومقابلها الوصية الوطنية المتشددة لسامي قصير (84 عاماً)، وهو عالم في الزراعة والثروة الحيوانية، وأحد مؤسسي كلية الطب البيطري في جامعة بغداد: "كن مخلصاً لنفسك والعراق، واعمل بقوة للعراق وللعراق وحده، وعُدْ إلى العراق حالما يسوده السلام".
وكثير من العلماء المكرمين قضى معظم عمره في خدمة بلده في الداخل، واضطره الاحتلال إلى النزوح. وبينهم واحد من أبرز المهندسين المعماريين، وهو هشام منير الذي أسس ورأس قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد، وأنشأ عمارات مشهورة، مثل "جامعة بغداد" في الجادرية، و"مدينة الطب". وتصلح نصيحته دليل عمل مهني وأخلاقي للأجيال الجديدة من المعماريين، ويستهلها بالقول: "كن فخوراً بالتراث الغني لبلدك، وواجبك الحفاظ عليه وصيانته كمنبع للإلهام والإبداع والاستمرارية".
وكما يقول المثل الأميركي: "التكريم كالعطر ينبغي شمّه، وليس ابتلاعه". ولا تكريم يماثل شم عطر أرض مدينة الحلة بالنسبة لأقرب علماء العراق من جائزة نوبل. صالح الوكيل، قال عنه بيان انتخابه لعضوية "الأكاديمية الوطنية للعلوم" في الولايات المتحدة إنه "حقق ثورة طبية باكتشافه التفاعلات الأيضية والأنزيمية". وهذا يعني اكتشاف عملية تمثل الأغذية التي تديم الحياة.
وأكثر ما يدهش في العلماء الموهوبين هو عاطفتهم الفطرية الجياشة نحو العراق. ارتبكت لهذه العاطفة في أمسية مؤتمر علمي عربي في أبوظبي شارك فيه الوكيل. كنا عائدين في السيارة إلى الفندق عندما تدفق صوت زوجته فوزية البحراني بأغنية عراقية قديمة. "وين رايح وين؟.. وين العهد وين، وعليك ليل نهار، يبكن العينين". هذه المرأة التي تعيش منذ نحو نصف قرن في أرقى المجتمعات الطبية العالمية، كانت تغني لنفسها بعذوبة صبية عراقية في الرابعة عشرة من العمر. وخشيت أن ألتفت نحو الوكيل الذي تكاد عاطفته الولهانة تضيء عتمة جوف السيارة. "وين رايح وين... وين العهد وين؟"!
الخميس 30 أبريل 2009