07/02/2010
من حق البعض أن يتشاءموا من كيفية استجواب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، في الاسبوع الماضي وهزالة هيئة التحقيق المنتقاة لهذا الغرض. وقد بدا بلير بنعومة عنجهيته المعتادة مستعدا لتبرير ابشع الجرائم باعتبار ان 'التاريخ '، لا الانسان، هو الذي سيصدر الحكم عليه جراء اتخاذه قرار الغزو وشن الحرب على العراق ووقوفه جنبا الى جنب مع الرئيس الامريكي جورج بوش الصغير. ومع ذلك تدل ردود الافعال البريطانية الغاضبة على انه بات على وشك السير بخطى حثيثة نحو محكمة يديرها الانسان.
ففي الوقت الذي كان هدف الحكومة البريطانية باعلان تشكيل لجنة التحقيق سياسيا بالدرجة الاولى لامتصاص نقمة الشعب البريطاني على التدهور الاقتصادي، والتنفيس عن حالة الغضب لدى المناهضين للحرب والاحتلال، الا ان الرياح اتت بعكس ما يشتهي الملاح. حيث تدل كل النتائج الى ازدياد حالة الغضب المتبدية، بوضوح، في التغطية الاعلامية الممتدة عبر اليمين واليسار، وبكثافة لم تعرف، في بريطانيا المحافظة عموما سابقا. اذ تراوحت التهم الموجهة الى توني بلير ما بين إخفاء الحقائق والخداع، الى ارتكابه جرائم حرب وتسببه في خرق بريطانيا للقانون الدولي، مرورا بجوانب مبدئية كمسؤوليته عن فقدان السيادة الوطنية وتحويل بريطانيا الى تابع صغير لامريكا، وادارة الوزارة بشكل دكتاتوري بعيدا عن الإستشارات المعتادة لاجهزة الدولة التقنية أو زملائه في الوزارة، وأخيرا الانغمار في تحصيل غنائم الحرب عن طريق توقيع العقود لمصلحته الشخصية والاستفادة من منصبه السابق كرئيس للوزراء. وجاء كشف صحيفة الاندبندنت البريطانية بان توني بلير يتقاضى 170 ألف جنيه استرليني لكل خطاب يلقيه للبنوك والمؤسسات المالية الامريكية أي بمعدل 2000 دولار للكلمة الواحدة، بمثابة تأكيد لهواجس الكثيرين حول اسباب 'حلف الدم' بين بوش وبلير، وإثباتا آخر لدناءة نفوس السياسيين في عصر الكولونيالية الجديدة، وضرورة لجمهم. وهذا مما دفع الروائي البرازيلي باول كويلهو، الذي تم بيع 35 مليون نسخة من روايته الاخيرة، الى مطالبة الحكومة البرازيلية بالغاء عقد توني بلير كمستشار لاولمبياد ريو دي جانيرو لعام 2016، قائلا بانه ليس من المعقول استشارة مجرم حرب. مما يدفعنا الى التساؤل عن عدد السياسيين والنواب و'المثقفين' العراقيين المنخرطين في العملية السياسية ممن ابدوا اراءهم بصدد محاكمة بلير!
وقد تعالت الاصوات، اثر ادلائه بشهادته امام اللجنة، لاول مرة من قبل طيف واسع من اجهزة الاعلام الوطني البريطاني، وليس كما هو المعتاد من قبل عدد من اليساريين المتهمين بالعداء المزمن ضد امريكا، مطالبة بتقديم بلير الى لاهاي للمحاكمة كمجرم حرب، وهي سابقة نادرة في تعامل البريطانيين مع رؤساء الوزراء، حيث صرح احد السياسيين اليمينيين بان بلير قد اسقط عن منصب رئيس الوزراء احترامه وهيبته حين غامر مثل اللصوص بخرق القانون الدولي.
وبالاضافة الى التحليل الاعلامي المكثف الذي تناول مختلف الجوانب التي ترتبت على اتخاذ بلير قرار شن غزو العراق 'لتغيير نظام صدام حسين'، حسب تصريحه، بدت هناك مؤشرات اتخاذ خطوات عملية لتقديم بلير الى محكمة الجنايات الدولية. ومن المعروف ان بريطانيا تعترف بجرائم الحرب وفقا لتعريف القانون الدولي لها في قوانينها الداخلية، وانها، خلافا للولايات المتحدة الامريكية، واحدة من الدول الموقعة على نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية. ومن هنا تنبع امكانية اقتياد توني بلير الى محكمة الجنايات انطلاقا من بريطانيا.
اذ اعلن بروفسور القانون الدولي، بجامعة لندن، بيل باولينغ يوم 2 شباط / فبراير الحالي، بانه سيقوم برفع الدعوى ضد توني بلير بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد العراق كما في محاكمة نورمبرغ ضد النازية، وان ما تم كشفه خلال الاستجواب يكفي لاقامة الدعوى على توني بلير وتقديمه كمجرم حرب كما حدث مع الرئيس الصربي السابق سلوبودون ميلوسوفيتش.
ويقول بروفسور بيل باولينغ بان الكشف، اثناء الاستجواب، بان حكومة بلير قد رفضت تحذيرات وزارة الخارجية بالا تغزو العراق تعني بان هناك فرصة جيدة للتحقيق، على الاقل، مع توني بلير لارتكابه جرائم حرب. وقال البروفسور لصحيفة الديلي ميل البريطانية: 'اننا نعرف الآن بان الحكومة كانت قد حذرت بان المملكة المتحدة ستتعرض لخطر الادانة عند قرارها الذهاب الى الحرب'، وانه سيستخدم ذات القوانين التي استخدمت لادانة النازيين في محكمة نورمبرغ بين عامي 1945 و 46.
ويعكف بروفسور باولينغ الآن على كتابة الدعوى الموجهة الى المحكمة الجنائية الدولية استنادا الى ان السيد بلير مذنب بتهمة ' المصلحة المشتركة' التي تجعل الناس مسؤولين عن افعال مجموعة اكبر من الناس اذا ما كانوا يعلمون بانهم منخرطون بارتكاب ' افعال' اجرامية. مما يعني ان توني بلير سيكون مسؤولا هو الآخر عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الامريكية ومن بينها القصف الجوي للعراق في ايام الغزو الاولى.
ويأتي الاستناد بناء على شهادة سير مايكل وود، المستشار القانوني الاول لوزارة الخارجية البريطانية، 2001 2006، الذي جاء في شهادته امام لجنة العراق بانه حذر جاك سترو بان غزو العراق بدون قرار يدعمه من الامم المتحدة سيكون ' بمثابة جريمة عدوان'. وقد تؤدي الى تجريم الجنود والسياسيين البريطانيين.غير ان وزير الخارجية رفض التحذير.
النقطة الثانية التي يستند اليها بروفسور باولينغ هو 'اتفاق الدم' ما بين بوش وبلير في 2002 والذي تم فيه الاتفاق على غزو العراق. وقد ذكر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية انه يمكن 'تصور' وجود توني بلير في قفص الاتهام.
كما صرحت متحدثة باسم المحكمة بان هناك 'قرارا' يتناول سلوك قوات الحلفاء في الحرب، ولكنها لم تعلق على تفاصيل حجة بروفسور بولينغ القانونية المحددة.
وقد اعلن معهد 'جرائم حرب توني بلير'، باسم مكتب السكرتارية، المكون من د. دافيد هالبن ونيكولاس وود، في بيان صحافي له عن دعم المعهد 'لجهود البروفسور وزملائه في تقديم القضية الى المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة باجراء تحقيق اولي حول ارتكاب بلير وزملائه جرائم حرب ارتكبت خلال (2003-2004). وسيتم تزويد فريق المحامين بملفاتنا والوثائق ذات العلاقة. ان البيان التأسيسي للمعهد قد تم التوقيع عليه من قبل لجنة مكونة من ديرك جاكوبي، ناجي حرج، جون بلجير، نعوم تشومسكي، هيفاء زنكنة، بروس كنت، كين لوش، بن جريفين وتحرير نعمان، بالاضافة الى 6113 مؤيدا آخر.
ونأمل بان ما كشف عنه الاستجواب سيضاف الى التقرير الذي اعده البروفسور باولينغ وزملاء له في عام 2004 وان هذا التقرير سيقنع محكمة الجنايات ببدء التحقيق'.
وقد أكد المحامي صلاح الهاشمي عند سؤاله عن امكانية تقديم بلير الى المحكمة، بان 'هناك العديد من الحجج القانونية التي يمكن تقديمها ضد بلير، من بينها: ان سلوك بوش وبلير يتعارض مع القانون الدولي لسبب بسيط وهو ان القرار النهائي للامم المتحدة نص على وجوب وجود انتهاك مادي لقرارات الامم المتحدة قبل اللجوء الى استخدام القوة وان اتخاذ هذا القرار يجب ان يتم من قبل الامم المتحدة نفسها. وان اتخاذ قرار الذهاب الى الحرب دون تفويض الامم المتحدة جعل بوش وبلير يتصرفان باعتبارهما 'القاضي، وهيئة المحلفين والجلاد' في آن واحد وبطريقة وحشية لم يسبق لها مثيل. ويكمن خداع بلير في عرضه موجز نصيحة المدعي العام اللورد غولدسميث، فقط، مخفيا بذلك كل المحاذير المذكورة في تقديم المشورة. مما يعطي انطباعا خاطئا بأنه كان ملتزما، في كل الحسابات القانونية، بموجب القانون الدولي. ومن الواضح أن هذا ليس هو الحال.
ومن الجدير بالذكر أن سكوت ريتر، وهو ضابط سابق في مشاة البحرية الامريكية وأحد مفتشي الامم المتحدة، طاما كرر على مدى سنوات وبعدما شهد بنفسه الآثار المدمرة للعقوبات على الأبرياء في العراق وخاصة الأطفال، ان العراق لا يملك أسلحة دمار شامل و'ان الامم المتحدة كانت تتصرف بناء على تعليمات من جانب الولايات المتحدة للاستمرار في البحث عنها حتى يتسنى الاستمرار في فرض العقوبات بدون عائق، بعد ان تحولت الى فعل غير مشروع بعد ان ثبت خلو العراق منها'.
ولعل ما تجدر الاشارة اليه هنا هو ان غضب البريطانيين، من مثقفين وقانونيين وقادة نقابات واعضاء المنظمات الحقوقية والانسانية ومنظمات السلام، نابع، اساسا، من حرصهم على سلامة وديمومة النظام الديمقراطي البريطاني، وهم يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع البريطاني من اليسار الى اليمين وبغض النظر عن الصراعات فيما بينهم. وقد يكون من المفيد لنا كعراقيين ان نضع هذه الحقيقة نصب اعيننا، بصرف النظر عن ميولنا السياسية، واستنادا الى المبادئ الأساسية للمجتمع المدني الذي نسعى اليه، وبضمنها محاسبة المسؤولين كأشخاص عن الجرائم التي يشتركون بها، إنقاذا للأحزاب أو المؤسسات التي يتصرف هؤلاء بإسمها، محافظة على ما نكاد نفقده كإطار وطني للقوانين، أي دولة العراق المستقل والموحد، الذي يكفل ثقة المواطنين في مجرى تحقيق العدالة والسلام الاجتماعي.
'