مسيحيو الموصل: من جذور الحضارة لعصر داعش رأي القدس
لم ينفع تذكير الاب ساكو للمسلمين بأن المسيحيين «تقاسموا في شرقنا بالذات ومنذ ظهور الإسلام الحلو والمر، واختلطت دماؤهم في الدفاع عن حقوقهم وارضهم، وبنوا سوية حضارة ومدنا وتراثا».
ولم ينصتوا لتحذيره من ان ممارسات داعش انما «تسيء الى المسلمين والى سمعة الدين الإسلامي في التعايش مع ديانات مختلفة وشعوب مختلفة شرقا وغربا واحترم عقائدها وتآخى معها». ولم يهزهم بكاؤه الاخير قائلا «حرام أن يعامل المسيحيون بالرفض والطرد والملاشاة».
وهكذا خلت الموصل من المسيحيين للمرة الاولى منذ الف وخمسمائة عام، بعد ان قام داعش بطرد نحو ثلاثين الف مواطن عراقي مسيحي من بيوتهم، ومن مدينتهم، ومن ذكرياتهم، وتاريخهم، الذي هو جزء اصيل من تاريخ الحضارة وجذورها.
وبعد ان كان في العراق نحو مليون واربعمئة الف مسيحي في العام 2003، لم يبق حاليا سوى نحو نصف مليون، في احدى اكبر عمليات التطهير الطائفي في العصر الحديث.
انه يوم حزين في تاريخ الحضارة الانسانية، لكنه كارثي في تاريخ الاسلام الذي ترتكب باسمه هذه الجريمة مكتملة الاركان. ويكفي ان يتابع المراقب كيف يتلقف البعض في الغرب «فتوحات» داعش وغزواته وممارساته المقززة لينشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه صورة الاسلام، ليدرك الثمن الباهظ الذي يدفعه المسلمون على كافة الاصعدة.
ولم نسمع صوتا لمعسكر الاسلام المعتدل يدين سبي النساء ومصادرة العقارات والاموال من المدنيين الآمنين لحساب «الدولة الاسلامية» في الموصل، او ينفي الفتاوى الصادمة التي تبدو مصممة بعناية لخدمة الاعداء، وبينها فتوى لقيت انتشارا واسعا مؤخرا، وترجمها معهد ميمري الصهيوني (معهد الشرق الأوسط لأبحاث الإعلام)، ويزعم فيها شيخ داعشي «ان الاسلام لايفرق بين قتل الرجال والنساء والاطفال في الحرب»، واستشهد بحديث مزعوم نسبه للرسول الكريم ردا على سؤال من شخص يدعى بن جثامة.
ان ما فعله اولئك الارهابيون في الموصل، ليس تهديدا للمسيحيين او للعراق فحسب، بل انه انذار خطير بتصفية كافة الاقليات العرقية والدينية في المنطقة. ولا يعني هذا ان الاكثرية السنية ستنجو من الخطر الارهابي، بل ان اهل السنة سيجري تقسيمهم ايضا حسب مذاهبهم او معتقداتهم او ممارساتهم، لينضموا الى ضحايا «ماكينة التكفير في عصر داعش».
وهكذا فان اي طرح عربي يحاول التقليل من خطورة هذا الانتشار السرطاني لجماعات الارهاب في المنطقة بغض النظر عن تنوع اسمائها، بهدف خدمة اجندات سياسية، انما يساهم في ما ترتكبه من جرائم بحق الانسانية، ويمنحها غطاء اخلاقيا لمجرمين تجردوا من الحد الادنى من الانسانية.
لقد كشفت مأساة مسيحيي الموصل حقيقة الغرب المنافق الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها، اذا حدثت انتهاكات لحرية الاعتقاد في بعض البلاد العربية، ثم يتغاضى عن هذا النزع الهمجي لجذور الحضارة من ارضها في العراق، حتى بعد ان اضطرت قيادات مسيحية عراقية الى طلب صريح بتدخل دولي ضد داعش، وكأن الغرب سيكون بمنأى عن الخطر.
واخيرا فان مسيحيي الموصل اصبحوا عنوانا لميلاد «عصر داعش» المظلم، بعد ان كانوا اسهموا في انارة تاريخ الحضارة الانسانية منذ نشأتها، وعار على كل انسان يزعم الانتماء اليها او الى اي دين سماوي.