استراتيجية السيطرة الأميركية على النفط العراقي
محمود عوض
بدت المسافة الزمنية أخيراً أقرب إلى السنوات الضوئية منها إلى خمسين شهراً فقط منذ قامت الولايات المتحدة بغزو العراق في آذار (مارس) 2003 متحدية معارضة عارمة من المجتمع الدولي. تبدو المسافة أكبر كذلك ما بين الأهداف المعلنة للغزو في حينها والصياغات المعدلة أخيراً لتلك الأهداف. في الموسيقى التصويرية الدعائية المصاحبة للغزو كان الهدف الأميركي المعلن هو إزالة أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها العراق. ثم تعدل الهدف تالياً ليصبح تخليص العراقيين من نظام دموي مستبد. وتعدل الهدف ثالثاً ليصبح تحويل العراق إلى نموذج ومنارة لنشر الديمقراطية في كل أنحاء الشرق الأوسط.
طوال طرح تلك الأهداف وبموازاة سقوطها ميدانياً هدفاً بعد آخر، كان الرئيس جورج بوش يراوغ دائماً في إجابته على السؤال المتكرر: إلى متى يستمر الاحتلال الأميركي للعراق؟ إجابته المراوغة، ومعه بالتبعية توني بلير رئيس وزراء بريطانيا، كانت: إن قواتنا ستبقى في العراق طالما استمرت الحاجة إليها. لكنها لن تبقى هناك يوماً واحداً إضافياً بعد إتمام المهمة. لكن: ما هي المهمة؟ هنا تعود المراوغة من جديد والتأرجح يتكرر ما بين الديمقراطية المحمولة جواً والديمقراطية المطروحة أرضاً.
قيل أيضا، وتكرر كثيراً، إن المحافظين الجدد هم القوة الدافعة لهذا الجموح الإمبراطوري الأميركي. لقد بدا أنهم لم يتوقفوا دقيقة عند لحظة جموح إمبراطورية شبيهة، وفي العراق تحديداً، مارستها إمبراطورية أخرى في لحظة نشوة بقوتها. ففي سنة 1917 وزع الجنرال ستانلي مود قائد القوات البريطانية التي كانت قد احتلت لتوها مدينة بغداد منشورا يخاطب فيه العراقيين بقوله: «... إن عناصر جيوشنا لا يأتون إلى مدنكم وأراضيكم كفاتحين أو كأعداء، بل كمحررين. فمنذ أيام هولاكو خضع مواطنوكم لاستبداد الأجانب... وقد عانيتم وعانى آباؤكم من قبلكم من العبودية، كما جُر أبناؤكم إلى حرب ليس لهم فيها مطلب، وجردكم الظالمون من أملاككم، وشتتوكم في أماكن مختلفة. إن رغبة مليكي وشعبه وحلفائه من الأمم الكبرى هي أن يعود إليكم الازدهار كما في الماضي عندما كانت أراضيكم خصبة... وأنتم يا أهل بغداد لا تظنوا أن الحكومة البريطانية ترغب في أن تفرض عليكم مؤسسات غريبة عنكم، بل إنها تأمل في أن تتحقق طموحات فلاسفتكم وكتابكم من جديد، وأن يزدهر شعب بغداد وأن يتمتع بثروته وممتلكاته في ظل مؤسسات تتلاءم مع قوانينه المقدسة ومثله العليا العراقية...».
هل أصحاب المشروع الإمبراطوري الأميركي في 2003 لم يقرؤوا عن المشروع البريطاني المماثل في 1917؟ هم قرؤوا ودرسوا لكن ثقتهم المفرطة في القوة العسكرية الأميركية غير المسبوقة جعلتهم يصرحون ويكتبون عشية الغزو في آذار 2003: إننا ذاهبون إلى العراق، ليس لتكرار ما جرى سابقا، ولكن تحديداً لتغيير الأمر الواقع الذي أقامته بريطانيا منذ 1917. وفي الحالة البريطانية كانت بريطانيا العظمى تريد لنفسها مكافأة على خروجها منتصرة من الحرب العالمية الأولى. في الحالة الأميركية أصبحت الولايات المتحدة تسعى إلى مكافأة نفسها أيضا على خروج خصمها في الحرب الباردة مهزوماً. البترول كان في صلب الحالة الأولى، وهو أيضاً في صلب الحالة الثانية.
وعشية الغزو الأميركي للعراق في 2003 كانت الدعاية الأميركية الزاعقة ترفض بتاتاً أية مزاعم بأن البترول هو الهدف. بل إن أصواتاً عربية زاعقة أيضاً روجت للمزاعم نفسها بلسان عربي. البترول؟ أي بترول؟ أميركا ليست في حاجة إلى غزو العراق عسكريا للحصول على بتروله. أميركا تستطيع الجلوس في مكانها، ساقاً على ساق، وسيأتي إليها بترول العراق بالكميات والأسعار التي تراها هي حسب اقتصاد السوق لأن في سوق البترول تحديداً المشتري هو الأقوى من البائع. فإذا قامت أميركا بغزو العراق عسكرياً فلن يكون هذا من أجل البترول ودوافع دنيوية رخيصة، وإنما أميركا ستفعل ذلك ثانياً من باب التأديب والتهذيب، لكن أولاً من أجل دوافع سامية ورسالة وقيم أكثر سمواً. إنها من أجل الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
في البداية لم يتوقف كثيرون عند تحرك قوات الغزو الأميركية بأقصى سرعة لوضع اليد - قبل أي شيء آخر - على حقول البترول ومبنى وزارة البترول في بغداد. أما كل ما هو غير ذلك فمفتوح للنهب والسرقة والفوضى أمام عيون القوات الأميركية القريبة والمتابعة. بلا مبالاة أو اكتراث. هنا فقط يصبح النهب شأناً عراقياً وغير مفاجئ بتعبير رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي وقتها.
كثيرون أيضا لم يتنبهوا إلى حقيقة أن أحداً - بخلاف قوات الاحتلال - لا يعرف حتى اللحظة أية بيانات عن صادرات وإيرادات البترول العراقي منذ الاحتلال... وأين ذهبت بالضبط. وبين وقت وآخر يجري نشر تسريبات صحافية عن اختفاء شحنات بترول أو سرقة إمدادات بترول وتهريبها إلى الخارج، مع أننا هنا نتكلم عن بترول خام بآلاف الأطنان وليس عن تهريب ما خف وزنه وغلا ثمنه. أيضاً وفجأة، لم تعد للشركات والدول ذات التعاقدات السابقة مع العراق بالاستكشاف أو الاستثمار في حقول البترول أية حقوق. ما فات... مات. من الآن فصاعدا للعراق ولي أمر جديد هو الذي يقرر من يجوز له ومن لا يجوز: إنه سلطة الاحتلال. كثيرون كذلك لم يتعمقوا بالقدر الكافي في الصياغات المراوغة التي تريدها سلطات الاحتلال لقانون عراقي جديد يعيد تنظيم كل شؤون البترول العراقي. هذا القانون أصبح أهم ما يطلب الاحتلال الأميركي استصداره من السلطة المدنية القائمة في بغداد. السلطة العراقية نفسها التي قام بهندستها الاحتلال الأميركي من الأساس، مع إلزامات مسبقة بعدم التعرض لأي أوضاع قررها الاحتلال من قبل، ولا محاسبة قوات المرتزقة الذين لا تعرف عنهم الحكومة العراقية أية معلومات، وبالطبع الالتزام حرفياً بقرارات بول بريمر، آخر حاكم مدني أميركي، من وجود مستشار أميركي لكل وزير عراقي... إلى الالتزام بما أعلنه سابقا من «خصخصة» كل القطاع العام العراقي لحساب المشترين الأجانب الذين يحددهم الاحتلال... إلى تخفيض الرسوم الجمركية على الواردات، كل الواردات، تحت عنوان: دمج العراق في الاقتصاد العالمي بعد طول عزلة. فلتحيى الحرية التي جاءت أميركا إلى العراق لتجعله نموذجا لها في كل المنطقة.
في الأسابيع الأخيرة دافعت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية عن السياسات العراقية لرئيسها بقولها إن التاريخ سيكون أكثر إنصافا له ولسياساته من العناوين الانتقادية لبعض الصحف حالياً. قبلها كرر الرئيس بوش نفسه القول إن المؤرخين بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الآن سيكونون أكثر تفهما لدوافعه في الذهاب إلى العراق.
فقط في الشهر الماضي خرج المتحدث باسم البيت الأبيض الأميركي ليفصح في تصريحات مقتضبة وبشكل مباشر عما كان يجري التصريح به ضمنيا وبشكل غير مباشر. لقد ذكر أن الولايات المتحدة تخطط لوجود عسكري طويل الأمد في العراق، مؤكداً أن «الرئيس بوش قال إنه يرى وجودا طويل الأمد في العراق، يتم بناء على دعوة من الدولة المضيفة... لأن الحرب الدائرة في العراق والحرب الأوسع نطاقاً ضد الإرهاب ستستغرقان وقتا طويلاً».
لقد بدا هذا الإفصاح المقتضب تحولا غير مسبوق عن الغموض والمراوغة السابقين، علماً بأن الإدارة الأميركية كانت خرجت قبل أسابيع قليلة تستنكر ما قاله الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في الاتجاه نفسه. ففي 3/2/2007 قال كارتر تحديداً: «هناك أُناس في واشنطن لا ينوون مطلقاً سحب القوات الأميركية من العراق، بل يتطلعون إلى بقاء تلك القوات لعشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة مستقبلا... إن السبب الذي من أجله ذهبنا إلى العراق هو إقامة قاعدة عسكرية دائمة في الشرق الأوسط... علماً بأنني لم أسمع على الإطلاق من بين قادتنا العسكريين من يقول إنه سيلتزم أمام الشعب العراقي بأنه خلال عشر سنوات من الآن لن تكون هناك قواعد عسكرية للولايات المتحدة في بلاد الرافدين».
الإدارة الأميركية، بصوت رجل واحد، رفضت تلك الكلمات من الرئيس السابق جيمي كارتر في شباط (فبراير) الماضي. ثم أصبحت هي نفسها تتحدث عن نفس الاتجاه باقتضاب في شهر أيار (مايو). وفي اليوم التالي لتصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض، أعلن روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي أن الولايات المتحدة تتطلع إلى وجود طويل ومستمر في العراق على غرار الوضع في كوريا الجنوبية، لأنه بدلا من قيام الولايات المتحدة بمغادرة فيتنام نهائيا في 1975 كان أسلوبها في كوريا الجنوبية أكثر ذكاء حيث أن «الفكرة هي نموذج لاتفاق نحصل بموجبه على حضور طويل ودائم، ولكن بموافقة الطرفين ووفق بعض الشروط».
الرئيس جورج بوش في زيارته للعاصمة الفيتنامية هانوي العام الماضي كان أوضح لمرافقيه أن خطأ الولايات المتحدة في فيتنام لم يكن في ذهابها إلى هناك أصلاً، ولكن في أنها استسلمت بسرعة. وحينما سأله بعض الصحافيين المرافقين عن الدروس التي استخلصها من فيتنام بالنسبة للعراق قال: «سننجح إذا لم نغادر». الآن هو ووزير دفاعه وكبار معاونيه يقولون - ونحن في السنة الخامسة لغزو العراق - إنهم لن يغادروا العراق. وحسب صحيفة «واشنطن بوست» فإن الوجود العسكري الدائم في العراق قد «لا يأخذ طابع الاحتلال الحالي» وإنما سيكون «في شكل يخوله القيام بعمليات مستقلة». أما روبرت غيتس وزير الدفاع فيتطلع إلى نموذج الوجود العسكري الأميركي المستمر في كوريا الجنوبية وتكراره في العراق.
لأميركا قواعد عسكرية دائمة في كوريا الجنوبية منذ انتهاء الحرب الكورية (1950/1953) وتضم 30 ألف جندي. لأميركا أيضا قواعد عسكرية دائمة في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وتضم 48 ألف جندي. في الحالتين أميركا هي التي اختارت وفرضت وحددت مناطق قواعدها العسكرية، وليس مسموحا للسلطات المحلية الاقتراب منها أو معرفة ما يدور فيها أو ما يدخل إليها أو يخرج منها من أسلحة. كما أن الجنود الأميركيين في كل حالة محصنون ضد الخضوع للقوانين المحلية حتى لو ارتكبوا جرائم اغتصاب أو قتل للسكان المحليين كما حدث مراراً. في الحالتين أيضا تلتزم كل حكومة (في كوريا الجنوبية واليابان) بدفع خمسين ألف دولار سنويا عن كل جندي أميركي. يعني تقريبا: احتلال مدفوع الأجر.
العراق موضوع أكثر خصوصية. الاستراتيجية الأميركية موجودة لكن ما يزيد عليها في العراق هو: البترول. وهو بترول سعت أميركا للسطو المسلح عليه مبكراً لأهداف محددة. فإذا كان معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام يقرر في أحدث دراسة سنوية له أن ندرة مصادر البترول والغاز في المستقبل قد تؤدي إلى اندلاع نزاعات جديدة عبر العالم وليس فقط في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة تعرف قبله أن القوى العالمية المنافسة لها اقتصاديا - والصين تحديدا منذ 1993 - تعتمد بشكل متزايد على البترول المستورد. ومن هنا تسبق أميركا الجميع بوضع اليد على البترول، من العراق إلى بحر قزوين، ومن دارفور إلى غرب أفريقيا، ومن تيمور الشرقية إلى الخليج.
في القلب يأتي العراق، ليس فقط لأنه يملك ثاني أكبر احتياطي من البترول في العالم، ولكن أيضاً لأنه من العراق تطال اليد الثقيلة الأميركية بترول إيران وكل منطقة الخليج إضافة إلى شرق وغرب أفريقيا، من دون أن نذكر حماية إسرائيل ودورها التابع في المنطقة.
من هنا تقيم أميركا في العراق حاليا بدل القاعدة الواحدة أربع قواعد عملاقة - بخلاف قواعد أخرى فرعية - منها قاعدة «بلد» الضخمة على مساحة 14 ميلاً مربعاً وتبعد 40 ميلاً إلى الشمال من بغداد. ثم قاعدة أكثر ضخامة هي قاعدة «الأسد» على مساحة 19 ميلاً مربعاً. وكل قاعدة مجهزة بمدارج بطول ميلين لاستقبال أضخم الطائرات الحربية الأميركية. من هنا أيضا تقيم أميركا في العراق أكبر سفارة لها في العالم. سفارة في المنطقة الخضراء على ضفاف نهر دجلة وتمتد إلى مساحة مئة فدان وتستوعب ألف موظف وفيها مسبح فخم وسوبر ماركت للتسوق ودور للسينما. وكما كشفت صحيفة «الديلي تلغراف» اللندنية أخيراً فإن الاحتلال الأميركي يستخدم في بناء مجمعات تلك السفارة آلافا من العمال جرى استقدامهم من آسيا وغرب أفريقيا إلى الكويت ليتم ترحيلهم من هناك إلى العراق من دون علمهم، ثم تشغيلهم هناك تحت سطوة الاحتلال وبنظام السخرة كما العبيد بلا رعاية صحية مناسبة أو إقامة مريحة.
لا تشير تلك الحقائق إذن إلى احتلال أميركي مؤقت للعراق. تشير أساساً إلى وضع اليد أميركياً على بترول العراق. ولن أضيف جديدا إذا قلت وكررت: هذه أكبر عملية سطو مسلح يشهدها العالم حتى إشعار آخر. ومع أن البداية كانت نشر الديمقراطية إلا أن أول التجليات أصبح تشتت أربعة ملايين عراقي خارج بيوتهم ومدنهم وعراقهم.
كاتب عربي مصري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع التقدير لما أتى في المقالة فهي لا تعبر بالضرورة عن رأي حركة القوميين العرب
حركة القوميين العرب
mailto:raouf-b@mail.sy
تلفون جوال: 932430637 00963