وزارة الثقافة العراقيّة: مناقصة لشراء المثقّفين
هيفاء زنكنة
إلى مسلسل «المصالحة الوطنية» الذي بات موضوعاً للنكتة من جانب غالبية العراقيين وأطلقوا عليه اسم «المصالحة غير الوطنية»، أضافت وزارة الثقافة في حكومة الاحتلال حلقة جديدة أطلقت عليها اسم «المصالحة الثقافية». وقد أوضح صاحب المبادرة، جابر الجابري، الوكيل الأقدم في الوزارة، الحاجة إلى «المصالحة الثقافية» وتوقيتها قائلاً: «جاءت المبادرة بعدما انتبهت إلى أن أكثر من 60% من مثقفي العراق يعيشون في الغربة. وهم يمثلون نخبة الشعراء والرسامين والمسرحيين والممثّلين والأكاديميّين والكتّاب والصحافيين ومن مختلف أنواع الثقافات الأخرى، وأن أغلبهم غادر العراق بعد عام 2003».
وحسب تصريح الوكيل، ستنطلق المبادرة في دمشق حيث سيجري تجميع المثقفين العراقيين المشتّتين في جميع أنحاء العالم لتتمّ المصالحة «بينهم وبين مثقفي الداخل». ولجذب وإغراء المثقفين للعودة إلى الوطن سيعلن خلال اللقاء «عن آليات جديدة لإعادتهم، مثل تخصيص مبلغ 500 ألف دينار عراقي، أي ما يعادل 450 دولاراً، لكل مثقف عائد وتنظيم رحلات مجانية لهم من البلدان الموجودين فيها للعراق»، وهي عبارة قصيرة تلخص نظرة المنخرطين في مشروع الاحتلال إلى الناس وعقلية الغنيمة التي تسود تفكيرهم العملي.
إن قراءة خبر مبادرة المصالحة الثقافية توحي بأن ما يمنع المثقف العراقي المهجر قسراً من العودة إلى وطنه هو خلافه مع مثقفي الداخل أولاً، ولأنه بحاجة ماسة إلى مبلغ 450 دولاراً (ولا أدري كيف توصّلت وزارة الثقافة إلى أنه يحتاج إلى هذا المبلغ بالتحديد) وسعر تذكرة السفر ثانياً. ولنبدأ بمحاولة فهم من هو مثقف الداخل ومن هو مثقف الخارج. حسب علمي أنّه مصطلح استُخدم في الفترة السابقة للغزو تمييزاً بين مثقفي المنفى والمثقفين الذين واصلوا العيش في ظل النظام السابق رغم الظروف القاسية التي مروا بها، وواصل بعضهم أثناءها الإنتاج الأدبي والفكري والفني بينما توقّف آخرون ليعيشوا حالة الصمت.
وقد أثار استخدام المصطلح الكثير من النقاش والجدال حينها. واستمر النقاش بعد الغزو لأن عدداً من المثقفين المنفيين اختار العودة مع الغزو، ليسهم في خلق شريحة من مثقفي الاحتلال، متمتعاً كما هم ساسة الاحتلال بالدعم المادي من جهات مختلفة، كي يقوم بتسويق بضاعة «الديموقراطية».
ولإنجاح التسويق، اختار مثقف الاحتلال إما ارتداء بزّة الليبرالية الجديدة أو عمامة الطائفية. وقد تأرجحت وزارة الثقافة في عهد الاحتلال بين الاثنتين. فكان أول وزير للثقافة، هو مفيد الجزائري، ابن الحزب الشيوعي الذي غيّر جلده إلى الليبرالية الجديدة ليدندن في كورس براغماتية الاحتلال. ثم عيّن أسعد الهاشمي وزيراً للثقافة والجابري وكيلاً، كل حسب المحاصصة الطائفية. فكان مؤهل الوزير كونه من الطائفة الفلانية ومؤهل الوكيل الطائفة العلانية، ولسان حال حكومة الاحتلال يقول فلتذهب الثقافة العراقية إلى الجحيم.
هنا، وانطلاقاً من التغيّرات المأساوية في العراق المحتل وهجرة معظم المثقفين التي جرت، وباعتراف الوكيل، بعد عام 2003، فإن مصطلح الداخل والخارج تغيّر ليضم المثقفين المنفيين قبل وبعد الغزو معاً.
وعلى الرغم من تباين مواقفهم من النظام السابق، وحّدهم الهم الوطني والموقف المناهض للاحتلال وما صاحب الاحتلال من استهداف مباشر للأدباء والصحافيين والعلماء والأكاديميين، وعدم توافر الأمان والاستقرار، وغياب حرية الرأي والتعبير وانعدام فرص العمل. لذلك لم يعد هناك من معنى للتقسيم السابق المبني على الداخل والخارج بين المثقفين، وبات موقف المثقف من الاحتلال وجرائمه وانتهاكه لكرامة المواطن، وانخراط قوى المحاصصة الطائفية في تدمير البلد وثقافته وحضارته وانحدراها إلى الحضيض في الفساد المالي، هو المحك الذي يميز إبداعه ونتاجه وموقفه أينما كان.
وحين يختار موظفو وزارة الثقافة، في مبادرتهم وغيرها، تجاهل ذكر هذه الحقيقة والاكتفاء بذكر أسباب لا أساس لها من الصحة، تمويهاً وتضليلاً، فإنّهم إنما يختارون اغتيال الحقيقة، وهي جريمة أخلاقية لا تقل بشاعة عن التصفيات الجسدية التي يتعرض لها المواطن العراقي.
وقد تفضّل موظف آخر في وزارة الثقافة يدعى جهاد زاير، بتنويرنا عن المؤتمر في دمشق قائلاً إنه سيجري فيه «عقد ندوات نشرح من خلالها الوضع العراقي الحالي، وكيفية تحوله من وضع خطر إلى آمن، وأنّ الحياة عادت إلى سابق عهدها وليس هناك داعٍ إلى التخوّف من العودة». وهو تصريح مضحك ــ مُبكٍ، لأنه يفترض أولاً أن المثقف العراقي أعمى وأصم وأبكم بحكم أنه لا يقرأ ولا يتابع من خلال أجهزة الأعلام المرئية، وليس لديه أهل في العراق ليطّلع على حقيقة ما يجري.
وثانياً، لأنه أطلقه قبل يوم واحد من ارتكاب جريمة اغتيال كامل شياع المستشار في وزارة الثقافة، وكان الأَولى بالوزارة، وهو الموظف لديها، توفير الحماية له قبل دعوة الآخرين ليصبحوا مشروعاً للاغتيال. وثالثاً لأنّ تصريحه جاء في يوم إصدار الحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت بحق وزير الثقافة السابق أسعد الهاشمي المتهم بارتكاب جريمتَي قتل.
فعن أية ثقافة وأمان يتحدث الموظف زاير؟ وما هو مفهوم الثقافة لدى هذه الشريحة من الموظفين؟ هل ستقترح الوزارة لتوفير الأمان للمثقفين اتّباع اقتراحات وزارة الصحة عندما ناشدت الأطباء ليعودوا، لتضعهم في معسكرات مغلقة لحمايتهم، وتشجّعهم على حمل السلاح وتدرّبهم عسكرياً للدفاع عن أنفسهم؟.
ولم يجب أصحاب الاقتراحات الفانتازية عن سؤال بسيط طرحه أحد الأطباء قائلاً: وماذا عن مداهمة قوات الاحتلال ومرتزقتها للمستشفيات وضربهم وإهانتهم للأطباء أمام المرضى؟ هل من قانون يحمي المواطن وما هي آلية تطبيق القوانين إزاء الحصانة القانونية التي يتمتع بها المحتل والمرتزقة على اختلاف أنواعهم؟.
ويواجهنا تصريح الزاير بسؤال آخر وهو عما يعنيه بعودة الحياة إلى سابق عهدها؟ هل يعني الحياة كما كانت تحت نظام صدام حسين؟ ما الذي حل بسمفونية الديموقراطية والحرية؟.
أما إذا ما عدنا إلى مبلغ المال المقترح إغواء المثقفين به، فإنّ متابعة تصريحات مستخدمي وزارة الثقافة تؤكد أنّ موقف الوزارة مبنيّ لا على فهم الإبداع والنتاج الفكري والمعرفي والفني والنقدي ولكن على حساب فهم موظفيها للبيع والشراء والتسعيرة بالدنانير، إذ لا تزال كلمات المدير في مكتب وزير الثقافة عقيل المندلاوي (من التيار الصدري) ماثلة في الأذهان حين قال مخاطباً كل من انتقد عمل الوزارة: «إن الأدباء غير راضين عن أداء الوزارة، لكنهم حين يتسلّمون الدنانير سيتغيّر موقفهم».
تُرى هل سيغير سعدي يوسف موقفه من الاحتلال وأكاذيب مرتزقته وهو القائل «إنْ كان ثمّة من دعوى للشعب، فالدعوى الأولى هي مواجهة الاحتلال، لا التلهِّي بالأكاذيب». وهل سيغير فاضل العزاوي موقفه إذا ما رأى دنانير الاحتلال، وهو القائل عن المشهد الثقافي في العراق اليوم: «أي تغيير في هذا المشهد يتطلب أولاً نهاية الاحتلال وإنهاء كل الظروف الشاذة الطائفية والاقتتالات اللانسانية التي يدفع ثمنها العراقيون، فكيف يمكن أن نتحدث عن مشهد ثقافي في ظل هذا الواقع؟». وهل بإمكان موظفي وزارة تدعي العمل من أجل الثقافة والمثقفين أن يخبرونا عما فعلته وزارتهم دفاعاً عن القاصّ أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة الموصل الدكتور أحمد جار الله ياسين الذي قامت قوات الاحتلال الأميركي ليلة 20/21 تموز 2008 بمداهمة منزله واعتقاله مع اثنين من أخواته؟ أم أنّ الوزارة مشغولة بتأليف لجان مؤتمر «المصالحة الثقافية» وترجمتها على واقع ثقافة الاحتلال وهو كم من الدولارات ستخصّص كميزانية، وما هي مخصصات الأعضاء والإيفاد، كما حدث في مؤتمرات المصالحة العشائرية والدينية والوطنية وباقي المسمّيات الوهمية؟.
* كاتبة عراقية