"التشاؤل" في الحركة الوطنية العراقية
منذر نعمان الأعظمي
تستمر بين العراقيين في الداخل والمهجر محاولات تجميع الصفوف لدعم المقاومة العراقية نحو التحرير بعيدا عن العملية السياسية الزائفة التي جاء بها الإحتلال، ومنها مثلا اللقاء الوطني للتحرير والديمقراطية الذي جرى في بيروت 28 و29 تشرين الثاني2008 الماضي، الذي إعتمد على تحمل المدعويين لنفقات سفرهم واقامتهم بأنفسهم. وقد سبقت هذه المحاولة جهود أخرى ونشاطات مماثلة بدعوات من شخصيات وهيئات وطنية أخرى.
وهذا النوع من نشاط المجتمع المدني، الممول ذاتيا، يضمن إستقلالية المشاركين وتفاعلهم في إطار من التجرد عن إعتبارات أخرى ، خصوصا وأنه يسعى لتمثيل الطيف الوطني. وقد تغيب كثير من المدعوين لهذا اللقاء الأخير بسبب إيقاف الرحلات الجوية من العراق وصعوبات سفر العراقيين في الدول العربية . لكن تغلب نسبة المستقلين ممن حضر، والذين على صلة وثيقة بكثير من التيارات الفاعلة في العراق، قد سمح لهم بتمثيل مواقف من لم يحضر، بهذه الدرجة أو تلك.
ورغم الإحباط المتكرر، ظاهريا، لهذه الجهود والتشويشات عليها في السنين الماضية، بل منذ سنوات الحصارالذي مهد للإحتلال، فيمكن للمتابع تلمس مسيرة من الغربلة والتقارب بين من تجرأوا على الحوار الجدي فيما بينهم على إختلافهم، ودرجات من تجاوز مخلفات الصراعات التاريخية القديمة بين اليسار والقومييين، و بينهم وبين الإسلاميين والليبراليين مثلا، إضافة للتوضيح المتكرر لمدى هشاشة الطائفية في العراق بين المثقفين والناشطين الوطنيين. بل كانت هذه اللقاءات المجال الأهم للتفاهم داخل كل تيارعلى حدة، وإكتشاف البعض منا قربه من ممن كان بالأمس بعيدا وبعده عمن تصوره قريبا.
ويمكن توصيف هذه الجهود، مع تعثرها وما قد يعتبره البعض فشلا، أو مجرد كلام غير مجدي، بكونها تمثل استمرار البحث عن مفاهيم وصيغ تستوعب المرحلة، وعن الخيمة الوطنية التي تجمعنا جميعا، أو تضيء مسيرة الحركة الوطنية ومحطاتها الجديدة . وقد برز مؤخرا الدور الذي يستطيع المثقفون المستقلون لعبه في تقريب التيارات الوطنية المتنازعة، وحتى تنظيمات المقاومة المسلحة بشكل ما، لتطمين بعضها البعض، و صياغة برنامج عمل وطني لا يفرضه الا إتفاقهم.
وغالبا ما تواجه هذه الجهود بالإنتقاد والتجريح و التشويش. غير ان حملة الانتقادات ، فيما يخص اللقاء الاخير، كانت اقل حدة من المعتاد وشاب معظمها التشاؤم من جدوى اللقاء، والخشية من المجهول ، أكثر منه التجني والتخوين. فهل لنا أن نتفاءل بذلك، أم نبقى متشائمين من قدرتنا على توحيد الصفوف الوطنية فعلا، حالنا حال الفلسطينيين وغيرهم.
نحت الكاتب الفلسطيني الراحل أميل حبيبي كلمة التشاؤل من التفاؤل والتشاؤم. وكان ذلك تعبيرا ساخرا استخدمهن في إحدى رواياته، عن حال عرب فلسطين 1948. فاذا ما اصيب المتشاءل بمكروه فإنه يحمد الله على عدم حصول مكروه أكبر، قائلا: " أقوم في الصباح من نومي فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: المتشائم أم المتفائل؟". وواضح مدى إنطباق هذا الحال على العراقيين في بلدهم أو المهجرين منها في بلدان نسيت أفضال العراقيين عليها. بل قد تكون هذه حال كثرة العرب والمسلمين.
ولا ادري اذا كنا مع او ضد الزعيم الإيطالي أنطونيو غرامشي في سجنه، في العشرينيات من القرن الماضي، حين تحدث عن "تشاؤمية العقل وتفاؤلية الإرادة"، مفترضا ان نكو ن قادرين على تغليب الأرادة وتحدي الصعاب بها، أو أن نمعن النظر فيما هو ممكن تحت ظروف قاهرة. وربما كان أميل حبيبي نفسه واحدا ممن وجد لنفسه طريقا خاصا لذلك، وهو المولود في حيفا عام 1921 ودفن فيها عام 1996 تحت شاهد قبر كتب عليه "باق في حيفا". وكثير منا لن يكون حظه كحظ أميل حبيبي ، لخيارات أخذناها في شبابنا ولظروفنا الاستثنائية، وان كنا نأمل الا يمنعنا ذلك من تشاؤمية العقل وتفاؤلية الإرادة.
مساران متوازيان في اللقاء الوطني العراقي
عند تأمل سلسلة اللقاءات بين الشخصيات والتيارات الوطنية العراقية في السنين الأخيرة ، يجدر بنا إستخلاص ما يزيد من إحتمالات نجاحاتها أوإخفاقاتها ، وخصوصا في تحديد مجال الحوار في كل آن، وتجنب الخلط بين المجالات. إقترح الكاتب والصحافي وليد الزبيدي في لقاء بيروت 28-29 تشرين ثاني 2008 وجوب التمييز ، اثناء الحوار وصياغة المواقف، بين مراحل ثلاث: المقاومة ومسيرة التحريرأولا ، ومستقبل الحكم في العراق بعد التحرير ثانيا، ثم تصورات الفترة الأنتقالية بين المرحلتين ثالثا. وهو مقترح أخذ به الحاضرون بسهولة، كون لكل مرحلة ضروراتها المختلفة . وقد طرحت الآراء حول الفترة الإنتقالية كونها تعتمد على التكتيك بقدر ما فيها من الفكر الاستراتيجي، فيما عدا تفضيل أن تطرح الحركة الوطنية العراقية تصورا يفهمه العالم، حتى إذا كان إفتراضيا، يعتمد سيناريو إنتقال "الملف العراقي" الى مؤتمر عالمي يضم الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي كي يشرف على خروج الإحتلال وإعادة بناء الدولة.
كما يتوجب علينا التمييز، ايضا، في كل من هذه المراحل الثلاث بين مسار الوطنية ومسارالمواطنة.
الأول يمكن توصيفه بمسار الوطنية العراقية بمفهومها التأريخي: ويتعلق بصياغات رفض الأحتلال ومخلفاته وخطوط بناء الدولة العراقية بعد التحرير على أسس الإستقلال السياسي والإقتصادي والثقافي أولا وعلى إساس الديمقراطية ثانيا. ولا أتوقع صعوبة ما في صياغة المواقف في هذا المسار بعد سنوات الأحتلال التي غربلت وقربت الوطنيين وزادت من أواصر الثقة فيما بينهم ومواقفهم المشتركة.
وقد برزت الحاجة، اليوم، بضرورة الكتابة والشرح لمفهوم الوطنية التاريخي لإنه إنحسر كثيرا بسبب شوائب في التيارات الأممية والإسلامية والقومية ، وبسبب المتاجرة بالوطنية على حساب مصالح و حقوق الفرد والجماعة وبضمنها تجاوز تقاليد الإقصاء والأستحواذ والشمولية . فهناك إذن حاجة ماسة لإسترجاع موقع الوطنية كمقياس رئيسي وأولي لتقييم الفرد والجماعة.
الثاني يمكن توصيفه بمسار المواطنة العراقية العملية : ويتضمن صياغة برنامج إنقاذي يضمن لكل مكونات الشعب العراقي حقوقها، وآلية تطمين بعضها البعض. ويتضمن أيضا الموقف من الأفراد والجهات العراقية التي تورطت مع الإحتلال وفي التجاوزات الطائفية والعرقية. هناك مصاعب جمة في هذا المسار لأنه يستوجب تجاوز الحالة الراهنة بيومياتها المريرة، ويستدعي الحكمة والصبر والنظر الأبعد. والمواطنة مقياس رئيسي ثان لتقييم الفرد والجماعة وبدونها يتهشم مقياس الوطنية الأول.
أن صياغة مسارالمواطنة العراقية ضروري لمنع دورات الإنتقام والعنف الدموي التي دمرت العراق لحوالي قرن من الزمن، وتثبيت سيادة القانون بحيث ينتفي العقاب الجماعي والإجتثاث لأي جماعة سياسية، مهما عظمت الجرائم التي إرتكبت بإسمها، مع بقاء الحق الشخصي لمتابعة الجرائم الموثقة في المحاكم، ومعاقبة الجناة بدرجة جناياتهم ، واللجوء الى التعويضات المدنية، و منع الجناة عن الحياة السياسية والأدارية العامة بدرجة تورطهم في تخريب البلاد والتواطؤ مع الإستعمار والصهيونية.
هنا ، من المفيد التفكير بميثاق عراقي وطني يشمل مساري الوطنية والمواطنة . ويمكن التقدم سريعا في المسار الأول لإعلان المبادي والأتجاهات التي نناضل من أجلها على كل صعيد ، بحيث يمكن لأية تغييرات سياسية أن تعتمد على وجود برامج وطنية مهيئة للتنفيذ بديلا من قوانين الإحتلال وتشويهاته. ويمكن كذلك التقدم تدريجيا في المسارالثاني كالمشروع البديل للعملية السياسية المشوهة الراهنة ولمن هو منخرط فيها كي يتقبل المشروع الوطني، وسيادة القانون فيما فعله في الماضي.