هل هي هموم «شيوعية» أم وطنية؟!
لا يوجد حزب يضم الفسيفساء العراقية بكل أطيافها السياسية والقومية والسلالية واللغوية والاجتماعية والدينية والمذهبية مثل الحزب الشيوعي، ولعله الحزب الوحيد الذي كان عراقياً بامتياز، حسب ما عبّر عنه وضاح شرارة في التسعينيات، فقد كانت بعض الأحزاب تتأسس على أساس قومي (أحادية القومية) أو ديني أو طائفي أو فئوي.
أما الحزب الشيوعي فقد نشأ وترعرع عراقياً ببُعد عربي وأفق أممي، وعلى ضفافه نشأت أحزاب يسارية أو ديمقراطية- ليبرالية عراقية، لكنها لم تعمّر طويلاً سواءً الحزب الوطني الذي ترأسه محمد جعفر أبوالتمن أو «جماعة الأهالي» التي أسسها عبدالفتاح إبراهيم وحسين جميل وعبدالقادر إسماعيل ومحمد حديد، وانضم إليها لاحقاً كامل الجادرجي، الذي أسس فيما بعد «الحزب الوطني الديمقراطي»، حيث نشط منذ الأربعينيات يوم أجاز وزير الداخلية سعد صالح العام 1946 خمسة أحزاب سياسية، واستمر حتى أواسط الستينيات، حيث تدهورت الحياة السياسية، وسادت الشمولية وادعاء احتكار الحقيقة على نحو واسع.
ونهضت بعض الأحزاب اليسارية مثل حزب الاتحاد الوطني (الحزب الجمهوري بعد الثورة) الذي قاده عبدالفتاح إبراهيم وشارك فيه الجواهري الكبير، وحزب الشعب برئاسة عزيز شريف، وحزب الاستقلال ذو التوجه العروبي بقيادة محمد مهدي كبه وصدّيق شنشل وفائق السامرائي وآخرين، كما نشأ في مطلع الخمسينيات في العراق حزب البعث الذي استحوذ على قسم كبير من التيار القومي العربي (لاحقاً)، في حين ظلّ القسم الآخر مع التوجهات الناصرية، مثلما نشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) كحزب قومي كردي.
ويعتبر الحزب الشيوعي هو الحزب المعمّر الأكبر، حيث مضى على تأسيسه أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، وبدأ مشواره في 31 مارس 1934 وعاش كغيره من الأحزاب مرحلة صعود وهبوط، لكنه رغم جميع أخطائه بما فيها موقفه من قرار التقسيم العام 1947 ومن قيام دولة إسرائيل العام 1948 وفيما بعد محاولاته الاستيلاء على الشارع بعد ثورة 14 يوليو 1958 وعزل القوى الوطنية الأخرى، لا سيما خلال فترة «المد الأحمر» وما ارتكبه من عسف وإرهاب في الموصل وكركوك، وغيرها، إلاّ أنه ظلّ يحظى بثقة الجماهير وحبّها، لا سيما لتضحياته الكبيرة ووطنيته وتفانيه ونزاهة قياداته وكوادره بشكل عام، لكن مثل هذا الميل الشعبي بدأ ينصرف عنه، ليصبّ في اتجاهات أخرى.
وإذا كان للقمع الذي تعرّض له وبخاصة العام 1963 بعد انقلاب 8 فبراير وإعدام الكثير من قياداته وتصفية الكثير من كوادره، وكذلك بعد انفضاض الجبهة الوطنية مع حزب البعث العام 1978-1979 وما تبعها من حملات إرهابية لقمعه وتحديد العام 1980 موعداً لاجتثاثه وهو الذي اضطر أعداداً غفيرة من مناضليه إلى الهجرة إلى الخارج، الأمر الذي قد يكون سبباً في تقليص نفوذه وإضعاف مكانته وتحجيم دوره، إلا أن ثمة أسباب أخرى تتعلق بنهجه وممارساته.
لعل مناسبة الحديث هذا هو المفارقة التي حصلت عند انتخابات مجالس المحافظات، حيث لم يحصل الحزب على مقعد واحد، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جدية للمراجعة وإعادة النظر في الكثير من مواقفه وسياساته، ففي الثمانينيات اتخذ الحزب مواقف مائعة في الحرب العراقية- الإيرانية، تم تفسيرها باعتبارها ممالأة للإيرانيين وليس بمعزل عن مواقف الحركة الكردية آنذاك، لا سيما بتأخير شعار وقف الحرب وتقديم شعار الإطاحة بالدكتاتورية، وهو ما أثار صراعاً حاداً داخل أوساطه، وكذلك ما بعد ضرب العراق بسبب غزو قوات النظام السابق للكويت وما ترتب عليه من استحقاقات، بما فيها فرض نظام العقوبات الدولي والحصار الجائر الذي استمر 13 عاماً، ولم تكن مواقف «إدارة» الحزب من هذه القضية حاسمة فقد ظلّت تراوح بين تقديم شعار الإطاحة على شعار إنهاء الحصار، الأمر الذي أثار التباسات وتشوشات حول جوانب فكرية وإنسانية تتعلق بمنهجه وسياساته، وإن كان قد عاد لرفع شعارات تندد بالحصار وتدعو إلى إنهائه، لكن بعض دعواته كانت خافتة ونبرتها واطئة.
ولأنني منذ نحو ربع قرن كنت قد ابتعدت عن العمل الحزبي ووضعت مسافة من التيارات والكتل الشيوعية الأخرى لاحقاً، حيث اعتبرت نفسي ماركسياً مستقلاً وخارج نطاق الصراع بين الفرقاء، وهو ما جعلني أتصرف بحرية إزاء أصدقاء ورفاق ما زالوا يعملون مع الحزب والفرق المنشقة عنه، وهو الذي دفعني إلى كتابة رسالة قبيل احتلال العراق، وما زلت أحتفظ بها حرصاً على كيانية الحزب ومستقبله موجهة إلى الرفيق الأمين العام حميد مجيد موسى واللجنة المركزية «القيادية»، تطلب منه عدم الانخراط في مشروع احتلال العراق وتشجّعه وقيادة الحزب على اتخاذ موقف واضح وحازم، وهو ما كان قد ذهب إليه من أن الحرب حتى لو أدت إلى تغيير النظام والإطاحة بصدام حسين، فنحن سنكون ضدها، وهو موقف استحسنته في حينها بغض النظر عن مسؤولية النظام الدكتاتوري فيما وصلت أوضاع البلاد، ووضعت عدداً من النقاط أقرب إلى برنامج كامل لاعتماده، تساوقاً مع ذلك التوجّه الذي ورد عبر تصريح للأمين العام.
وبعيداً عن تداعيات الصراع الداخلي وتصفية حسابات وكيديات وانتقام وردود فعل خاطئة، بعضها ذهب إلى حد المصالحة مع النظام وتخفيف ساحته، ولكنه في الوقت نفسه استمر بهجومه ضد قيادة الحزب ورفاق الأمس، الذين لم يدخروا وسعاً بطرد وفصل واتهام كل من له رأي لا يروق لهم، لا سيما في ظل مراكز قوى واستقواء بجهات خارجية ووضع أموال وإمكانات تحت تصرفات محددة، مع استمرار النهج الخاطئ بشأن ما سمّي بالكفاح المسلح والتحالفات والتخبط في الحرب العراقية- الإيرانية والحصار الدولي، الأمر الذي أضعف من روح «الوطنية العراقية» التي كانت إحدى أبرز سمات الحركة الشيوعية العراقية، وهو ما دفع الكثير من الجهات إلى استصغار شأنه والتعامل معه من موقع أدنى وكقوة هامشية.
ولعل الأمر الأكثر من ذلك، هو قبول صيغة بول بريمر للتقاسم المذهبي والطائفي والانخراط للعمل فيها وتبرير قيامها، بما يتعارض مع منهجه، ولا سيما النظرية الماركسية- الوضعية النقدية، وكان دخول العملية السياسية واحداً من الاجتهادات الخاطئة التي توازي حسب تقديري جميع أخطاء الحزب السابقة، بل وتتفوق عليها، ولا أريد هنا المزايدة على أحد، فثمة طرق أخرى غير قبول منطق الاحتلال والحماسة لتوقيع الاتفاقية العراقية- الأميركية.
ولعلي في حوارات مع أصدقاء من الحزب الشيوعي، كنت أتفهم بواقعية الضغوط التي يتعرض لها، لكنني لم أستطع أن أهضم أو أبرر مهما كانت المزاعم موضوع التعاون مع الاحتلال، وفي أحد الحوارات مع رفيق وصديق شيوعي قيادي من موقع آخر، قلت له: أنا لا أدعو الحزب الشيوعي ليحمل السلاح بوجه الاحتلال، فذلك في الوقت الحاضر فوق طاقاته وإمكاناته، ولكن يكفيه أن ينسحب من العملية السياسية بعد تجربة فاشلة ومريرة وتحالفات خاطئة مريبة، وأن يعلن أنه مع مقاومة الاحتلال سلمياً ويرفض الاتفاقية المجحفة والمذلّة، مثلما رفض جميع الاتفاقيات الاسترقاقية، كما كان يسميها أيام العهد الملكي، فضلاً عن رفضه ومقاومته لحلف بغداد. كما أن موافقته على دستور يحتوي الكثير من الألغام، فضلاً عن نكهة طائفية ودينية، فيها خطأ كبير، مع أني من الذين نظروا بواقعية إلى الدستور، لا سيما القضايا الإيجابية التي دوّنها في باب الحقوق والحريات والمواطنة ومبادئ المساواة واحترام حقوق الإنسان، لكنه من جهة أخرى احتوى على نواقص وثغرات لدرجة أنها تشطب بعض المبادئ الإيجابية التي سطّرها، والتي سيكون لا معنى لها بعد تعويمها.
أستطيع أن أقول إن هذه الأسباب الفكرية والسياسية هي التي وقفت أمام اختيار الناخب لمرشحي حزب وطني عراقي عريق وذي تاريخ مشرّف رغم جميع الأخطاء والنواقص، ومثلها هناك أسباب تنظيمية، هي علاقاته الداخلية وتعامله مع قياداته السابقة ورموزه الوطنية، فبمجرد الاختلاف نزلت على رؤوسهم التهم والشتائم والنعوت، وكأنهم لم يكونوا حتى وقت قريب «قادة تاريخيين» كما تتم تسميتهم، مع أنني أعتبرهم ومعهم الآخرون إدارات حزبية ليس إلا.
أعتقد أن رسالة الانتخابات لا ينبغي أن تمرّ دون مراجعة جدية وجريئة، وأتحدث هنا من موقع الصديق والحريص بعيداً عن الاتهام والتخوين، وليس لدي أية أغراض خاصة أو علاقة بالماضي، رغم اعتزازي به، فلا بدّ من الاعتراف بالتقصير حتى وإن جاء متأخراً، كما لا بدّ من الاعتراف بالأزمة التي يعاني منها الحزب منذ سنوات طويلة، ولعل بعضها أزمة قراءة للماركسية في السابق والحاضر، وهي أزمة موضوعية وذاتية شاملة، لا سيما بوصول التجارب جميعها إلى طريق مسدود، فضلاً عن عدم دراسة الوضع العربي الاجتماعي والتاريخي والديني والنفسي، بما فيه من مكوّنات، على نحو مفتوح وبعيداً عن الكليشيهات المسطّحة التي ترد أحياناً في غير سياقها.
كما ينبغي الاعتراف أنها أزمة سلوك وضعف في التأهيل القيادي والشخصي، لا سيما إزاء الآخر، وهي تتعلق بالموقف من السلطة، وبخاصة القرب والبعد منها، وهذه مسألة معقدة بحاجة إلى دراسة مستقلة منذ 14 يوليو 1958 وحتى الآن، ثم لماذا انفضت عنه كتلة فاعلة من المثقفين والفنانين والإعلاميين والأدباء، وكأنهم فائض عن الحاجة؟!
أنا أسأل شخصياً الرفيق حميد مجيد موسى وقيادة الحزب، لماذا لم ينل أي مرشح نسبة أصوات تؤهله للوصول إلى مجالس المحافظات؟! وإذا أمكن الجواب باقتناع فسيكون الحزب قد بلغ طريقه إلى دراسة الأزمة بجميع أبعادها، وإن لم يحصل ذلك، فقد يتطلب الأمر جرأة بالمبادرة إلى تقديم استقالتهم فردياً أو جماعياً والرجوع إلى قاعدة الحزب، عسى أن تجد من هو أجدر بالمهمة!! أقول ذلك دون غمط حق أحد أو التجاوز عن دوره النضالي أو التدخل في شأن داخلي، فذلك واحد من الهموم الوطنية العامة!!