القدس العربي
هيفاء زنكنة
9 آب 2009
نحن محاطون بالارقام والاحصائيات. احصائيات مثل سور يرتفع يوميا، حولنا، حتى يكاد يخنقنا لفرط ثقله. احجاره
مصنوعة من اشارات مجردة قد يراها البعض مجرد خربشة اطفال. الاشارات المجردة لا تمنحنا الاحساس بما يجري، قد تعطينا تصورا عاما الا انها اعجز من ان تمنحنا الحس الانساني العميق. فما هو معنى مليون قتيل من ضحايا الاحتلال؟ وما الذي يتركه في النفس ذكر احصائية الخمسة ملايين مهجر من بيوتهم سواء الى خارج او داخل وطنهم؟ومن منا يستوعب ارقام الخسارة المادية التي تكبدتها امريكا في غزوها للعراق، وقد أطلت علينا بالتريليولانات، ونحن بالكاد قد توصلنا، في استيعابنا، الى حدود المليار؟ وما الذي يعنيه اختفاء مليارات الدولارات العراقية جراء الفساد الامريكي وتفرعاته العراقية؟ وهل للمليون ارملة وخمسة ملايين يتيم أصوات تصل الاعماق فتهزها أم انها مجرد أرقام يكررها الجميع مثل اسطوانة مشروخة لم تعد تصدر غير الضجيج بدلا من الموسيقى؟
ان المستعمر (واعني بالمستعمر المحتل الامريكي وملحقاته من العراقيين) يخشى الاحصائيات الفاضحة لجرائمه واخفاقاته غير انه يخشى، ايضا، وقائع ما يجري للضحايا ولو كانت تتعلق بقصة شخص واحد. وأقصى ما يخشاه المستعمر ان يكون لضحية جرائمه وجه واسم. حينئذ يقع المحظورفيصبح 'الارهابي' او 'الصدامي التكفيري' أو 'المشتبه به' انسانا، مواطنا، ينتمي الى عائلة ومنطقة وله تاريخ شخصي ولديه، مثل بقية الناس، الحق في الحياة. وهذا أمر يود المستعمر طمره الى الأبد ان امكن اذ انه يود احكام قبضته وهيمنته على ناس بلا وجوه وبلا اسماء، على حشود بلا هوية بلا مواطنة بلا حقوق. وهذا ما فعله النظام السابق، ايضا، حين اعتقد، تدريجيا، بانه يمتلك حقا الهيا في استهداف كل من يصنف تحت مسميات 'الغوغاء' و'التبعية'.
وقد استلمت، قبل اسابيع، عبر البريد الألكتروني، رسالة بعنوان احصائيات وارقام عن العراق بعد مرور ست سنوات على الاحتلال، تم تجميعها من قبل احد المتابعين للشأن العراقي، لرصد الوضع العراقي بكافة جوانبه الصحية والتعليمية والانسانية والمعاشية اليومية. وهي ارقام كبيرة بكل المقاييس. وهي موثقة وصحيحة ومفيدة لفضح الواقع الكارثي الذي يعيشه المواطن العراقي، غير انها، على الرغم من اهميتها في توضيح ملامح الصورة العامة، تفتقد الحس الانساني وما يدفع القارئ الى التماهي مع صاحب المصاب بحيث يدفعه الى اتخاذ موقف.
وقد قامت وحدة توثيق الانتهاكات في هيئة ارادة المرأة، وهي منظمة نسوية عراقية، بتقديم نموذج يستحق الاقتداء به عند الكتابة عن مآسي ابناء شعبنا. اذ جمعت في شرح حال المواطنة أم محمد ما بين التوثيق الذي يمكن الأخذ به لتقديم المتهمين الى العدالة أو تبني قضيتها من قبل المنظمات الحقوقية الانسانية الدولية وما بين التعبير الانساني الذي يجعل حالتها مثالا لما قد يحدث لاي مواطن آخر. يخبرنا تقرير الهيئة: 'ان أم محمد من محافظة الرمادي، مثلها مثل مئات وآلاف الأمهات والزوجات والأخوات، خاضت طريقها إلى السليمانية لزيارة أخيها المعتقل في سوسة، وبمجرد أن أنهت زيارتها، وهي في طريق العودة إلى بيتها، تم اعتقالها عند أول سيطرة خارج المعتقل، بتهمة باطلة ادعت فيها القوى الأمنية بان هوية الأحوال الشخصية التي تحملها أم محمد هوية مزورة'. وقد أكدت المعتقلة في لقاءها مع الهيأة، لغرض توثيق حالتها، بأن التهمة رائجة وأن أعدادا كبيرة من النساء اللواتي يتكبدن عناء الوصول إلى ذويهن من المعتقلين في سجون السليمانية يواجهن ما واجهته هي أي التهمة بالهوية المزورة، ثم الاعتقال، ثم دفع الكفالة وقدرها ملايين من الدنانير (من 3 إلى 5) ملايين دينار عراقي.
وقد عوملت ام محمد اثناء التحقيق معها من قبل الأسايش (الأمن الكردي)، بطريقة سيئة تنضح بالعنصرية. وبعد تحويلها الى القاضي عاملها، هو الآخر، بالطريقة ذاتها موجها لها الشتائم والكلام الجارح واصفا اياها بانها 'صدامية تكفيرية'، ثم أمر بنقلها الى سجن النساء 'كشتي' التابع الى محافظة السليمانية. وتروي أم محمد بعض ما شاهدته في السجن الذي بقيت فيه 45 يوما، قائلة: 'في اليوم ذاته التي نقلت فيه إلى السجن أتوا بامرأة أخرى اسمها (س) من محافظة صلاح الدين، متهمة مثلي بان لديها 'هوية مزورة'. وقد اعتقلت عند أول نقطة تفتيش مرت بها بعد انتهاء زيارتها لأحد اقاربها، أظن انه ابنها. كانت المسكينة مريضة بالقلب، أجريت لها عدة عمليات جراحية باطنية وكانت تنتظر عملية أخرى، انهارت صحياً حد الموت، فتم الافراج عنها بعد دفع الكفالة النقدية، وبعد أن تعهد ذووها أمام القاضي بإعادتها إلى المعتقل بمجرد أن تتجاوز مرحلة النقاهة في إثر العملية التي تحتاج إلى إجرائها، إلا أن المعتقلة توفيت قبل أن يسمح القدر بإعادتها إلى السجن. وإغلاقاً لملف اعتقالها وحياتها معا، جلب ذووها إلى القاضي شهادة وفاتها. وكان معنا في المعتقل ثماني نساء أخريات' . وتصف أم محمد حال السجناء من الرجال بمرارة والم قائلة: ' كان سجن الرجال لصيقا بسجننا، وبطريقة لن اكشف عنها (اعترفت المعتقلة أمامنا، بالطريقة التي أوصلت المعتقلات لمعرفة ما يجري خلف جدران قفصهن، وطلبت منا أن لا نكشف عنها حتى تبقى طريقا للأخريات يفضحن بها المستور وحتى لا نكشف للسجانين سرها). تبين لنا شهية السجان سالار لأجساد المعتقلين من أبنائنا، كان يدخل الشوكة في جسد أحد الرجال، كان صراخه يدمي قلوبنا، وبعد أن ينهي حفلته التعذيبية، يخرج والشوكة بيده والدماء تقطر منها ومن بين أصابعه، ويقوم بغسلها وغسل يديه من الدماء مبتهجا، ويشاركه السجانون الآخرون الضحك والابتهاج.
وتضيف وهي تسترجع تلك اللحظات بألم: كان الألم يعتصر قلوبنا، كان صراخ المعتقلين الذين يتعرضون للتعذيب طوال الليل يمنع عنا النوم، ويشوشنا الصراخ من جديد أثناء النهار، كان السجانون يتلذذون بتعذيب المعتقلين.
سألناها فيما إذا تعرضت هي أو النساء إلى التعذيب قالت:
'لم نتعرض للتعذيب الجسدي، كان من حسن حظنا إننا اعتقلنا بعد فضيحة نشرتها إحدى المعتقلات قبلنا في الإعلام الأجنبي وتحدثت فيها كيف أنها تعرضت للاغتصاب من قبل السجانين وبالمناسبة، فان المعتقلة كانت كردية، في إثر الفضيحة جيء بسجانات من النساء، كان التعذيب معنويا، كن يشبعننا الشتائم وكن عنصريات بامتياز'.
وكان وضع ام محمد الصحي متردياً، إلى حد انها أغمي عليها ونقلت، مقيدة اليدين إلى مستشفى السليمانية، وفيها تم اكتشاف إصابتها بالسرطان. خلال ذلك تمكن اخوها من تدبير مبلغ (5) ملايين دينار ودفعها ككفالة نقدية إلى المحكمة مقابل إطلاق سراحها، بعد ان عجز عن الإتيان بكفيل، حسب شروط المحكمة، التي كانت تشترط أن يكون الكفيل: كرديا، الا يقل عمره عن 35 سنة، مدنيا، تاجرا ويحمل هوية غرفة التجارة الكردية.
وهي شروط، حسب تعبير ام محمد 'تعجيزية لا سيما أننا بعيدون عن السليمانية، ومن الصعب علينا معرفة شخص بهذه المواصفات'.
ان اعتقال ام محمد وغيرها، بعيدا عن مدنهن، وفي ظروف صعبة ومهينة، ومن ثم ابقاءهن كسجينات لحين تدبير المطلوب من المال، امر اقل ما يوصف به هو انه اختطاف، وان النساء اللواتي لم يرتكبن اثما غير زيارة فلذات اكبادهن، هن في الحقيقة رهائن لدى نظام فاسد ماديا واداريا لحين دفع الفدية.
ان ما تقوم به هيئة ارادة المرأة من توثيق واتصالات مع المنظمات العالمية ضروري جدا خاصة في حال انعدام وجود الدولة وسيادة حكومة الميليشيات. كما ان لتوثيق حياة الضحية ـ الفرد بتفاصيلها الصغيرة بدءا من الاسم والعمر ومكان الاقامة وانتهاء بشرح المشاعروردود الافعال، أهمية بالغة. فقد يصبح ذلك الفرد، ومن خلال الاحساس الجماعي بانسانيته، الممتد عبر المشاركة والفة الاشياء المتحدث عنها، رمزا للضحايا والمقاتلين والمقاومين. كما قد يؤدي التوثيق الصحيح المستند الى الحقائق، ذات يوم، نهاية للمزايدات بحياة الضحايا، خاصة حين يتحقق مفهوم العدالة في ظل قضاء مستقل.
' كاتبة من العراق