ماذا حلّ بحُمرتك أيها الخجل؟
بقلم: علي الصراف
منتصف آب 2009
يحاول رئيس الوزراء "العراقي" نوري المالكي أن يقدم نفسه كزعيم وطني، بدلاً من الصفة المعروفة عنه كرئيس لحزب طائفي، وكممثل لمشروع طائفي.
حزب الدعوة الإسلامية، الذي أعاد انتخاب المالكي رئيساً له الأسبوع الماضي، بالطبيعة والجوهر، قبل أي تعريف، هو حزب طائفي، فكره طائفي ومرجعيته الفقهية طائفية، وولاءاته الخارجية مع إيران قائمة على أساس طائفي. وهو انخرط في العملية السياسية التي صممها بول بريمر رئيس الادارة "المدنية" (المدعومة بـ250 ألف جندي أمريكي ومرتزقة!)، بوصفه جزءا من مشروع طائفي. وهذا المشروع قسم العراق، وتقاسمت الحصص على أساس طائفي.
ولا تحتاج طائفية حزب الدعوة الى دليل، كما لا تحتاج طائفية الائتلاف الحاكم الى دليل أيضا. فأحزاب السلطة، تبدو في كل مظهر من مظاهر عملها وشعاراتها وهتافاتها وسياساتها وميولها ومرجعياتها وصداقاتها وعداواتها، طائفية حتى نخاع العظم. حتى أن اعتبارها أحزابا "سياسية" أمر فيه الكثير من التأويل والمجاز، لانها ليست "سياسية" إلا بمقدار ما هي طائفية.
مع ذلك، بدا المالكي، وفقا لتصريحاته الأخيرة، رجلاً يرغب بالتخلي عن طائفيته لحساب "مشروع وطني" لم تتضح معالمه ولا شروطه بعد. إذ قال الأحد خلال لقائه برؤساء تحرير الصحف المصرية في بغداد أن "الائتلافات التي تشكلت سابقا شئنا أم أبينا أخذت بعدا طائفيا أو بعدا قوميا بالنسبة للكرد". وقال "لكن من خلال العمل والتجربة والممارسة السياسية في بناء الدولة اتضح الكثير مما ينبغي عمله، على مستوى الدستور وتعديلاته أو على مستوى إدارة العملية السياسية، وفق أسس وطنية. لذلك أنا قراري وعملي الآن هو أن لا عودة للائتلافات الطائفية إنما نحو الائتلافات الوطنية، وجهدي وجهد الإخوان معي ينصب على إيجاد ائتلاف وطني".
وزاد على ذلك بالقول "يجب تشكيل ائتلاف وطني غير طائفي وغير عرقي. نحترم السنة ونحترم الشيعة ونحترم العرب ونحترم الأكراد ونحترم الأحزاب، ولكن إن لم يتعاملوا إلا على أسس وطنية ونحن نقود هذا الائتلاف، وان شاء الله لا نتراجع عنه أبدا".
هل هذا تحول جذري؟
وهل التحولات الجذرية تحصل في لقاء مع رؤساء تحرير صحف؟
ألا يجب أن تتوفر عليها أدلة وبيانات ووثائق ونقاشات وحوارات تتخذ على ضوئها قرارات؟
وعلى أي حال، فللوطنية معايير. ومن دون معايير، فماذا تصبح؟
بعد ست سنوات من أعمال القتل والدمار التي خيضت على أساس طائفي، والتي أسفرت، وما تزال تسفر عن أعمال قتل وحشية على الهوية، ومليشيات تتاجر بالموت على أساس طائفي، بما في ذلك تجارة الأعضاء البشرية، ربما يجد العراقيون إن من حقهم أن يعرفوا على أية أسس ومعايير تكون الوطنية؟
فالمشروع الطائفي لا يصحو من نومه ليكتشف انه "وطني" بعد سنوات من عمله كـ"طائفي". وهو لا يغسل يديه من سلسلة مجازر إرتكبها في الصباح والظهر والعصر على أساس طائفي، ثم يعود العشيّة ليقول انه "وطني". وهو لا يتحالف مع غزاة أجانب، ويعقد معهم اتفاقيات، ويلبي مصالحهم الإستراتيجية، ثم في غفلة من الزمن يكتشف مساوئ الطائفية، ليقول انه، من الآن فصاعدا، "وطني".
للوطنية معايير وأخلاقيات والتزامات. وما لم تكن هذه المعايير والأخلاقيات والالتزامات واضحة ومفصلة، فإنها لن تعدو كونها "زعماً".
ومن حق أي أحد أن يزعم انه وطني. ولكن أليس من حق الآخرين أن يسألوه: على أي أسس؟ ووفقا لأي معايير؟ وبناء على أي التزامات؟
ولكن هناك ما يستوجب الحذر. فالأحزاب الطائفية التي تتخذ من "التقية" ستارا لعملها، قد تقول أي شيء وهي تقصد عكسه.
فهل هذا تحول جذري أم "تقية"؟
لم يوفر حزب الدعوة الإسلامية، ذو المرجعية الطائفية الإيرانية، أي دليل، لا في مؤتمره ولا في سياساته، على أنه أجرى مراجعات جذرية لكي يبرر الانتقال، بها، من الصف الطائفي الى... "قيادة" الصف الوطني.
والقفز من "قيادة" الصف الطائفي، الى "قيادة" الصف الوطني، يتطلب استدراكا. فهذه شهقة قوية، كان من اللازم، أن نشرب فوقها كأس ماء على الأقل.
هكذا تحول، لكي يمكن الوثوق به، كان يجب أن تسبقه حوارات ومجادلات ومعارك ثقافية. وهذه الحوارات كان يجب أن تتناول كل مظهر من مظاهر الطائفية في العراق ولا تكتفي بنقدها، بل تعلن نبذها، ونبذ كل ما ارتبط بها من سياسات والتزامات ومعاهدات ومحاصصات وترتيبات مصالح.
"التقية" لم تعد سلوكا ذكياً، على أي حال. الكل يعرف أنها محاولة مبتذلة للضحك على الذقون. ولئن كان الطائفيون يظهرون من خلالها وطنيين، "جفت"، أو من دون تريث، ولا خجل، فمن حق المرء أن يعود ليسأل: "أين حمرتك أيها الخجل؟".
أين حمرتك أيها الخجل، إذا كان المشروع الطائفي لم تكفه دماء مليون ونصف المليون ضحية؟
وكيف نرد لكل هؤلاء الضحايا حقهم؟ ومن مَنْ نأخذ بحق بلد تم تدميره ونهبه والاستيلاء على ثرواته؟ وماذا سنقول لملايين الذين تهجروا من منازلهم؟ ولملايين الذين المحرومين تحت سلطة، إن لم تجد أحزابها مالا، فانها تذهب لتسرقه؟ وماذا سنقول لمئات الآلاف الذين اعتقلوا، وما يزالون معتقلين، من دون محاكمة، وللذين يتعرضون للتعذيب وانتهاك الأعراض؟
ثم، ماذا سنقول للدم الذي تم سفكه في هذه المجزرة، وقد صار بحرا؟ ودم العراقيين "يظل عن الثأر يستفهمُ"؟ فماذا نقول لهم وجراح شهدائهم "من الجوع تهضم ما يُلهم"؟
فإن لم تخجل من كل هذا، فمم ستخجل؟
رؤساء تحرير الصحف المصرية، الذي كانوا يعودون في السابق من مقابلاتهم في العراق بسيارات مرسيدس، لا بد وأن يشعروا بالحسرة، إذا وجدوا أنهم، هذه المرة، عادوا من الغنيمة بـ"تقية"، من دون خجل.
ولقد كان من الطبيعي أن لا يسألوه: على أي أسس؟ ووفقا لأي معايير صرت يا رئيس الوزراء "وطنيا"؟، فهم بدورهم كانوا يمارسون "التقية"، حتى ليجوز للمرء أي يسألهم: على أي أسس؟ ووفقا لأي معايير انتم رؤساء تحرير صحف؟ وماذا حلّ بحمرة الخجل؟