رمضان كريم يا عراق
alittihad.ae
محمد كامل عارف
19 آب 2009
رمضان ليس فقط للصوم عن الطعام، بل لتناوله أيضاً والاحتفاء به، وللعراقيين في الطعام والأكل فنون عمرها من عمر الحضارة البشرية. يروي ذلك أول كتاب صدر عن الطبخ في بلاد ما بين النهرين. عنوان الكتاب "أقدم طهي في العالم" The Oldest Cuisine In The World ونتعرف فيه على الأسرار اللذيذة لقدماء العراقيين "أعرق أجدادنا"، حسب مؤلف الكتاب، عالم الآثار الفرنسي جان بوتيرو.
عدد وصفات الطبخ التي يتضمنها الكتاب نحو خمسين، وهي تشكل أول دليل للطبخ في التاريخ. ومعظمها وصفات طبخ المرق الذي يتفنن به العراقيون حتى اليوم. مرق لحم الغزال، ومرق لحم الجدي، ومرق لحم فخذ الضأن، ومرق طيور الحمام، والدرّاج. ووصفات الطبخ ليست كل الطعام. وهذا ما يرويه الكتاب الذي يعرض أدوات الطبخ، وتقاليد وطقوس عرض الأطعمة، ومشتريات القصر الملكي من الأغذية، ومراسلات تجار الطعام، وطلبيات طعام من سيدات عراقيات، وتعاليم دينية تحرم أو تحلّل أطعمة معينة، أو تحدد أوقات تناولها، كعدم جواز أكل السمك والكراث في شهر "نيسان" الذي كان يُعتبر أول شهور السنة، أو تفسير رؤية تناول أطعمة معينة في الأحلام، كأن يرى الحالم نفسه يأكل لحم الكلب المحرّم، وهذا ينذر بوقوع فتنة، أو عدم تحقيق الأمنيات!
و"المطبخ المختبر الرئيسي للأكل"، حسب العالم الفرنسي الذي يخصص ثمانية فصول للتعريف بمطبخ قدماء العراقيين. وكما هي الحال الآن، كانت النار هي الطباخ الأكبر، والموقد ذراعها. و"التَّنْور" الذي يعرفه العراقيون باسمه وشكله الأسطواني منذ آلاف الأعوام، هو النموذج الأصلي للمواقد والأفران المستخدمة في كل مكان في العالم اليوم. والتنور، الذي يقول عنه المثل السومري الظريف: "أنت كالتنور العتيق لا يمكن تحريكك"، يُصنع من الطين النقي، ويبلغ ارتفاعه نحو متر، وقطره أقل من متر، وفي أسفله منفذ لإدخال الوقود أو خشب الحرق، ولمرور التيار الهوائي الذي يوزع الحرارة واللهيب على أرغفة الخبز الملصقة بالسطح الداخلي للتنور
والنار الطباخ الأعظم، لكنها ليست كل وسائل الطبخ، فهناك التجفيف تحت الشمس الذي يستخدم لحفظ وطبخ الخضراوات والسمك واللحوم المقددّة، أو تعريض الأطعمة للدخان، أوغمرها بالزيوت التي تمنع منتجات الطعام من التحلل والفساد.
هذه المعلومات المدونة قبل نحو 35 قرناً على ألواح طينية يسميها المؤلف "إنسكلوبيديا" العالم المادي. معظم مفردات الإنسكلوبيديا مدون باللغتين السومرية والأكدية، وتحتوي على مصنفات مختلف الأطعمة؛ كالخبز الذي يعرف قدماء العراقيين مائتي نوع منه، مصنفة حسب نوع الطحين، والعجين، والمضافات، والمطيبات، وحسب طرق الخبز وتقديمه. وتحتوي قائمة منتجات الألبان على نحو خمسين نوع من الأجبان، وثمانين صحناً من منتجات الألبان الأخرى. ولا تخلو أدبيات الطعام من وصفات فكاهية كان المهرجون يستخدمونها لإضحاك الجمهور، وبينها "الطبخة الجهنمية"، التي لا يُستحسن إيراد محتوياتها هنا!
وتسحر العالم الفرنسي في أدبيات طعام قدماء العراقيين، "المثابرة الفطرية الملازمة تماماً لعبقرية أولئك الناس، ورؤيتهم للأشياء، وفق منطقهم البعيد غالباً عن منطقنا، كما لو أن تداخل وترتيب مفرداتهم ساعداهم على الفهم بشكل أفضل وأشد صرامة للخبطة الكاملة في محتوى كونهم المادي".
ويختتم المؤلف كتابه بالتعبير عن الحسرة لعدم معرفة مباهج مائدة طعام قدماء العراقيين، ويتساءل بشغف عما إذا كان من الممكن العثور عليها في المطابخ الحالية في منطقة الشرق الأوسط؟
ويسرني أن أقول: أجل، يمكن التعرف إلى مذاقها في "كتاب الطبخ العراقي"، الذي صدر بالإنجليزية The Iraqi Cook Book. يتضمن الكتاب، والذي ألفته الباحثة العراقية لميس إبراهيم، أكثر من مائتي وصفة طعام عراقية يستهلها 13 نوعاً من الشوربة، وأولها "شوربة العدس" التي لا تخلو منها مائدة إفطار، وأنواع عدة من شوربة الخضر والحبوب، وأشهرها شوربة "الهريسة"، ولا أحد غير العراقيين يطبخها، حسب الباحثة، وهي تصنع من الحنطة الجافة. وأكاد أشم نكهة "الدارسين" أو "القرفة" التي تنثر على "الهريسة" مع الزبدة الذائبة قبل تناولها. وتتفنن العراقيات في نثر "الدارسين"، بحيث تبدو وكأنها لوحة زيتية، و"العين تلتذ بالأكل قبل الفم".
وهذا ما يفعله الكتاب المصور المكون من 300 صفحة، وعلى غلافه صورة "سمك المسقوف" الذي يشوى بالحطب في الهواء الطلق. وتروي المؤلفة في مقدمة الكتاب كيف بدأت علاقتها بالطبخ العراقي، وهي في عمر الثالثة عشر، وذلك عندما مرضت أمها واقترح أبوها يوماً أن تقوم بالطبخ. وتذكر مقدار بهجتها عندما شرح لها أبوها في بضع كلمات كيف تطبخ الرز والمرق، وقدم لها النصيحة التي لن تنساها: "أيّ شيء يسرك طبخه سيسر أكله". هذه الحميمية التي تستخدمها المؤلفة في وصف الطبخات، تضفي على الكتاب طابعاً شخصياً محبباً.
ووصفات الطبخ كنوتات المعزوفات الموسيقية، تبدع العراقيات في عزفها بشكل مختلف كل مرة. وفي الكتاب 14 "نوتة" للخبز والتشريب، وهو قطع الخبز المشربة بالمرق، وأشهرها تشريب "الباجة"، وهي شبيهة بالكوارع، لكنها في العراق تحتوي على مكونات أخرى من أحشاء الخروف. ويعجبني اسم "الدلع" لصحن "التشريبايه" وهو تشريب الخضر مع الخبز الجاف المطبوخ برؤوس الثوم والبصل وتمر الهند والنعناع وحب الرمان.
ولا حدود لعزف "نوتات" الكبة، ويعرض الكتاب خمسة عشر نوعاً منها، بما في ذلك كبة الموصل الشهيرة، و"كبة حامض شلغم" التي لا تخلو منها مائدة إفطار. وفصل خاص بطبخات الأسماك، بينها سمك بالتنور، وفصل الدجاج، وألذ ما فيه مرقة دجاج الفسنجون الإيرانية، ويدل إتقان العراقيين لطبخها، رغم مكوناتها المعقدة، على تمكنهم من روح الطبخ الإيرانية! ونحو عشرين طبخة للحم الغنم، وفي مقدمتها "القوزي"، "أشهى الأطعمة وأكثرها شمولية، ومتعة" حسب المؤلفة. وحسناً فعلت كونها حسبت على الأرز طبخات لحم ودجاج وسمك، وكذلك "الدولمة" و"تِمّن برياني" و"تِمّن ماش"، فمعظم طبخات العراقيين تنتسب للأرز، أو "التِمّن" كما يسمونه. وفعلت الشيء نفسه مع نحو عشرين صحن مرق تبدأ بسيدة المرق العراقية "البامية".
ومؤلفة الكتاب، لميس إبراهيم، هي خريجة كلية الطب في بغداد، ودكتوراه بالطب من جامعة لندن، ونموذج للانتماء الوطني المطلق لنساء العلم في العراق. وقد شاركت أخيراً في توجيه نداء إلى رؤساء الدول العربية والغربية حول أحكام إعدام أصدرتها حكومة بغداد على تسع عراقيات. تحدث النداء عن ظلم تاريخي تعانيه المرأة العراقية في السنين الأخيرة "بدأ بالحرمان من الأمان، ومن أبسط سبل العيش الكريم، وانتهى بتحويلها إلى أرملة فقدت معيلها، وأم لليتامى تبحث عما يسد رمق أطفالها، ومهجرة تستجدي أقل القليل خارج بلادها، أو نازحة في معسكرات من خيام خارج بيتها، ولا تعرف ما الذي سيجلبه لها الغد القريب".
ومن بين الموقعات على النداء المهندسات: نضال الطباطبائي، ونوال العبيدي، وملاك حمدان. ومختصات بعلوم الطب والصيدلة: بياتريس بوكتور، وانتصار العبادي، وهنرييت خوري، وهيفاء زنكنة.
ورمضان كريم يا عراق.