كلشان تقاوم العنوسة
عن البلاد البحرينية
كلشان البياتي.. احفظوا هذا الاسم جيداً.. سيكون لها شأن في الأدب العراقي المقاوم للاحتلال..
هي فتاة عراقية كانت تعمل مندوبة للأخبار في صحف العراق، وفي الوقت نفسه هي قاصة وتكتب في الشأن الثقافي وتراسل صحفا عربية.. وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق ثبتت على ولائها لوطنها وحبها للناس، فاعتقلتها قوات الاحتلال مرة وقوات حكومتها مرات.
قبل مدة صدرت لها مجموعة قصص في سوريا.. كانت قصص المجموعة كلها من أدب المقاومة ونالت اهتمام القراء والنقاد على حدّ سواء.. وقبل أيام قرأت لها نصاً أدبياً واقعياً بعنوان “يوميات فتاة عراقية تقاوم العنوسة” تمنيت أن تتفرغ كلشان لتطور هذا النص إلى رواية، ولكن في ظروفها الحالية والمضايقات التي تعيشها أمنياً ومادياً ومعيشياً، كونها تعيل ثلاث عائلات وهي من دون مورد كاف أو مستمر مستقر، هل ستتمكن كلشان من إنجاز كتابة الرواية التي سيقرؤها العرب والعالم، لو كتبت، لما فيها من صدق وتأثير وتصوير دقيق للمرأة العراقية بعد الاحتلال؟!
أظن أنه لو قامت دار نشر عربية بتبني هذا المشروع ودعم كلشان ماديا في سبيل انجاز روايتها لما صعب الأمر عليها؟.. ولو أن الداعمين للعراق ومحبي شعبه انتبهوا إليها وتكفلوا طبع روايتها ونشرها لسهلوا عليها إنجازها..
إن كلشان تعيش وضعاً صعباً كما علمت.
تتحدث كلشان في نصها الأدبي الرائع عن فتاة عراقية اسمها سرى “اسمي سُرى، سُرى العانس، هكذا ينادونني أهل البلدة، من يبحث عني ويستفسر من سكان حي اليرموك الشهير في بغداد يحتاج أن يلصق العانس بإسمي لأني صرتُ اشتهر بالعنوسة أكثر من أي شيءٍ آخر".
وسرى بلغت العنوسة قبل الاحتلال ولكنها في ذلك الوقت كانت تشعر بحيوية الشباب وأنها تستطيع أن تجتذب نصف رجال الكرة الأرضية، لكن شعورها بالعنوسة ابتدأ منذ وطأت قدما جندي أجنبي أرض بلادها: “قبل الاحتلال، بعشرة أعوام، خمسة عشر عاماً، كان يفترض أن أصبح عانسا وأعامل معاملة العانس، لكني لسبب مازلت أجهله لم يحدث ذلك، لماذا لم أشعر بأني عانس، وبأني فاقدة الأهمية والجدوى والصلاحية في تلك السنوات التي كان الوطن محاصراً، معزولاً عن أصدقائه وجيرانه؟.. ربما أن الأوطان هي التي تمنح صبيانها وبناتها من الشباب الإحساس بالعنوسة والإحساس بالشبابية والأنوثة. الوطن حين يحتل وتدوس أرضه بساطيل جنود المحتل، هو فقط يولدّ الشعور بالعنوسة المبكرة".
فالصور التي عايشتها يومياً زرعت في نفسها أنها عانس، بمجرد أن صار الوطن محتلاً: “دبابات أميركا، همراتها، مصفحاتها، راجماتها، أساطيلها، ناقلات جندها، عرباتها وهي تصول وتجول في شوارع بغداد ـ للمرة الأولى ـ كلابها المتوحشة وهي تلسع أجساد المعتقلين المقيدّة بالسلاسل، الرأس المعبأة داخل الكيس الأسود، جنودها المدججون بالأسلحة والرعب، صور انتهاكاتها في السجون، طائرتها التي ترمي الصواريخ على البيوت والعمارات، الجثث العفنة التي تلقى في الترع ومجاري المياه وساحات القمامة ـ كانت الشرارة الأولى التي أيقظت إحساسي بالعنوسة وولدت لديّ أحساسا أزليا لم يفارقني ـ أحساس بأني ولدتُ عانسا، وسأبقى عانسا، أموت عانسا، وأبعث عانسا".
وينمو الشعور بالعنوسة داخل سرى “كلما وقعت عينٌ من عينيَّ على همرٍ يركل بعجلاته بلاط قلبي وإسفلت الشارع في مدينتي الآيلة للعنوسة، يرسخّ الشعور وينميّ الإحساس في رأسي بأني عانس فعلاً وأن التخفي خلف أوهام الشباب لم يعد يجدي نفعاً".
وتستعرض كلشان عذابات شعبها بنحو ذكي من خلال التفكير الدائم لبطلة نصها بعنوستها والتغييرات التي خلفها هذا الاحساس على وجهها: “وجهي خالٍ من التجاعيد وبشرتي صافية صفاء سماء بغداد قبل أن تنفث فيه المروحيات الأميركية المقاتلة سمومها طيلة سبع سنوات من التحليق. نقية نقاء نهر دجلة قبل أن تعكرها أشلاء الذين تغدر بهم المليشيات وترميهم في قعر دجلة بعد أن تنال الهروات والكيبلات من أجسادهم وتشبعهم تعذيباً".
ثم تعود لتؤكد حقيقة عرضتها في البداية: “شعوري بالعنوسية شعور طارئ وليد مرحلة الاحتلال وسيزول بزوالها”. فالاحتلال جعلها تشعر بأنها “مثل شجرة هرمة شاخت فاصفرَّت أوراقها وتعرت من الحياة".
ويطلق جندي أمريكي رصاص بندقيته على جارهم مهند لكن قلبها يظل صامداً لا يهتز، فالعشرات مثل مهند يموتون اليوم في بغداد: “أحتاج إلى عين تذرف الدمع لكل شهيد ومعتقل ومفقود ومصاب إصابات بالغة. لا أذكر من أخبرني وغرس في رأسي أن العانسات وبسبب فقدانهن للأمل في الزواج يصبحن باكيات ونائحات ويتعلمن فنون اللطم على أتفه الأمور”. إن كلشان تصور شعور مدينة عظيمة بالهوان عندما احتلها الأجنبي وهي تستحث أبناءها وطالبي ودها ويدها أن يخلصوها من العنوسة لتشعر بالحياة والشباب.. والمؤلم أن توقع كلشان نصها الأدبي هكذا: “ كلشان البياتي ـ كاتبة وصحفية عراقية ـ بغداد المحتلة العانس".