من ينسحب أولا؟
التطورات السياسية الجارية في المشهد السياسي في العراق تشير إلى استمرارية في التدهور العام على جميع الصعد. محليا وإقليميا ودوليا، تشمل قوى العملية السياسية الجارية وقوى الاحتلال والغزو، وإدارات التحكم الداخلي والخارجي، يضاف له بروز إشارات واضحة عن تورط الجميع أو وصول الجميع إلى ورطة مشتركة لا يعرفون لها حلا ناجزا أو مخرجا آمنا للجميع. ففي الوقت الذي تتحدث فيه إدارة الاحتلال الأمريكي المتبقية قواتها العسكرية وغيرها حاليا على الأراضي العراقية بعد انسحاب قوات حلفائها والراغبين منهم بداية، عن انسحاب لقوات مقاتلة وتربيع الدوائر المتحركة فيها وإعادة انتشارها على خارطة الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، فإنها وقعت معاهدة إستراتيجية طويلة الأمد، عسكريا وامنيا واقتصاديا وسياسيا، تؤكد فيها استمرار الاحتلال بأشكال أخرى وتضع كلمة الانسحاب وإعادة التوزيع والانتشار والتحرك وغيرها من الكلمات بلا معنى حقيقي لها في ظل مخططات وموازين القوى الفاعلة على الأرض واقعا. وهي تدرك أنها بعد أكثر من سبع سنوات لم تنجز غير تدمير دولة وفرض هيمنة استعمارية غاشمة، وتشويه كل الشعارات البراقة التي ادعتها أو روجت لها، وما تزال رغم كل كوارثها تحاول تسويقها والتضليل بها لمن لم يقرا بعيون فاحصة ما جرى ويحصل فعلا في العراق وقبله في أفغانستان ولم يتذكر دروس التاريخ وعبره عن حروب الاستعمار وغزو الدول الرأسمالية الكبرى للبلدان والشعوب التي ابتلت بها.
تناقض التصريحات والبيانات بين المسؤولين والمؤسسات والسلطات يكشف في الحقيقة ملابس الإمبراطور الجديدة للوقائع المأساوية الحاصلة على الأرض والحقائق المرة التي يعاني منها الشعب يوميا والورطة التي وقع فيها الجميع، من سبب لها أو تسبب بها أو أصبح مسببا معها. والمضحك في الأمر أن انسحاب قوات أمريكية مقاتلة من بعض قواعدها في العراق وانتقالها إلى قواعد لها في أماكن أخرى حسب خطط الإدارة الأمريكية العسكرية الإستراتيجية وعمليات توزيع وتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري لم يؤثر بما يناسبه من تحركات فعلية أو مظاهر احتفالية، لعلم الجميع بان العملية صورية إدارية رغم الادعاء بتطبيق مواعيد اتفاقية وبروتوكولات رسمية. وما يزيد الضحك أو البكاء أو كليهما، هو إجراء الانسحاب في ظل ورطة إقليمية ومحلية اكبر، فما تقوم به إدارة الولايات المتحدة الأمريكية من سياسات شن حروب وتهديدات بها ومخططات عدوانية واسعة النطاق في أكثر من منطقة في العالم، ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي، ومحاولات تغيير خرائطها وتوجهاتها وبرامجها وسياساتها الإستراتيجية في إقليمها أو خارجه، يعطي صورة مصغرة للورطة الكبرى أو التورط الجديد الذي ترسمه تلك الإدارة. مثلما تؤدي سياساتها الفعلية في أفغانستان والعراق خصوصا. حيث تسمي وسائل الإعلام الأمريكية والناطقة منها باللغة العربية السلطات في بغداد بالمنتهية ولايتها، ويسلم السفير الأمريكي الجديد أوراق اعتماده إليها، (وهو بالمناسبة السفير السابع للولايات المتحدة الأمريكية إلى بغداد خلال سبع سنوات الغزو والاحتلال يقدم أوراقه في بغداد إلى أغلب الموظفين العراقيين انفسهم، دون تغيير أو تبديل أو تجديد في الأسماء والأشخاص والحصص الجديدة!!). ورغم ذلك فان مجرد ظهور صور تسليم أوراق الاعتماد وتسمية السفير وغيرها من المظاهر الشكلية البروتوكولية المعتادة تعني أن ما يجري في بغداد ليس انسحابا عسكريا أو سياسيا، بل تبادل ادوار ومصالح وولايات وتوافقات وتصريف أعمال وصراعات سياسية مكشوفة ومفتوحة، على حساب المصالح الوطنية الإستراتيجية وبناء الدولة المنشودة.
كما إن وجود هذه الصراعات والتدخلات والتباينات واستمرارها لفترة غير قليلة منذ الاحتلال وبعد ما يسمى بإجراءات انتخابات ومشاركة مليونية فيها واتفاقات معلنة وسرية حول تقاسم الأدوار بين كتل العملية السياسية الأمريكية فيها وزعمائها الذين راهنوا عليها وارتبطوا بها، يعني أن موضوع الانسحاب يشملها أيضا. فلا يكفي ما أعلن عن انسحاب قوات عسكرية من قواعد عسكرية فقط بل يتطلب انسحاب متواصل لكل قوى الاحتلال وممارساته وأساليبه وأدواته ووضوح منهج التغيير فعليا في عراق جديد بكل معنى الكلمة بعد مخاض كل التجارب المرة التي خاضتها إدارات الاحتلال والاختلال طيلة تلك الفترة.
وهنا يصبح السؤال مشروعا وواقعيا، من ينسحب أولا؟، قوات الاحتلال، إدارته وأدواته، العسكرية والسياسية وعمليته السياسية والاقتصادية واتفاقاته المبرمة من خلف إرادة الشعب وقواه الوطنية الحقيقية التي أعلنت بصدق مواقفها منها ومن مستقبلها وخياراتها المعروفة، وكيف يجري الانسحاب وينفذ ومن يشرف عليه ويتأكد منه، وكيف تتم عملياته وإدارته وتطورات الأوضاع خلالها؟ واسئلة أخرى كثيرة. فلا يمكن الوقوف طويلا عند نقاط خلاف شكلية، بدعوى دستورية أو توافقية، وبادعاءات محاصصة أو تقاسم مكونات مصنعة خصيصا لها ومرسومة لمهماتها التي تكشف سياسات الاستعمار وخططه المعلومة. إذ أن المهمات الوطنية الأساسية في عمليات الانسحاب هي إنهاء الاحتلال واقعيا ونفوذه عمليا وبناء دولة وطنية لشعب حر مستقل سيد على أرضه وثرواته ومستقبل أجياله، ووطن طبيعي بين موقعه الجغراسياسي وواجباته الأساسية في الإقليم والعالم. بينما يستمر المشهد السياسي ملتبسا ومتناقضا ومخادعا ولا يتحسس مجريات الكوارث اليومية التي تتفاعل محليا وتدعم اغلبها خارجيا ويستهان بحقوق الشعب ودمائه وحرياته وثرواته وتنميته ومكانته الطبيعية في بلده ومنطقته.
انسحاب قوات عسكرية أمريكية محتلة وبقاء فراغ سياسي وإداري مفتوح وتسريب سيناريوهات تقسيم العراق ومكوناته والتهديدات المصاحبة للشعب العراقي ووطنه وجيرانه ورسم خرائط جديدة للمنطقة، تفضح برامج وخطط الإدارات الأمريكية ومن يتعاون أو يتحالف معها وتضعها أمام آفاق أخرى ليست بكاملها تصب في مجرى المصالح الوطنية والقومية والإرادات الشعبية والخيارات الصحيحة. وتضع العراق أمام خيارات صعبة وطريق آلام طويلة. الانتباه لها والتنبه منها مهمة ومطلوبة وضرورة لابد منها اليوم قبل الغد، فهي بلا شك بكل جوانبها امتحان الإرادات الوطنية والحكمة السياسية ورجال الدولة والحركة السياسية.