المقاومة والتغيرات الاجتماعية من فلسطين الى العراق
هيفاء زنكنة 2010-08-27 |
يدور النقاش بين صفوف النسويات الناشطات، بحدة احيانا، ضمن المنظمات النسوية المختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة الاتجاهات، يتركز نشاطها، حول مفاهيم تحرر المرأة وحقوق المرأة وكيفية تحقيق المساواة بينها والرجل على كل المستويات. وقد رافقت نشأة وسيرورة هذه الحركة ومنظماتها، اختلافات حول المفاهيم وكيفية تحقيقها، ما بين النسويات الناشطات في امريكا واوروبا من جهة والناشطات في 'العالم الثالث' من جهة اخرى. وتلك اختلافات تظهر نتيجة تعرض العالم الثالث لبلاء الاستعمار الغربي وعمله على فرض مفاهيمه قسرا على العالم الثالث، وبضمنها مفاهيمه الخاصة عن 'تحرير المرأة'، التي اعتبرتها مجتمعات العالم الثالث مهددة لوحدة الاسرة وبنية المجتمع فضلا عن تهديدها للهوية الوطنية. ورأتها جزءا لايتجزأ من المنظومة الاستعمارية الهادفة الى التفرقة من خلال عزل قضايا المرأة عن الرجل. فتبنت حركات التحرر الوطني، في الدول الخاضعة للاستعمار ومنها العربية والاسلامية وأفريقيا موقفا، شبه متماثل تقريبا، بهذا الخصوص، ومفاده ان تحرير المرأة مرتبط بمسار التحرر الوطني. هكذا شاركت المرأة العراقية في النضالات الجماهيرية ضد الاستعمار البريطاني وساهمت ببناء العراق الحديث، وهكذا المرأة الفلسطينية منذ عشرينيات القرن الماضي. وللاطلاع على نضال المرأة الفلسطينية كنموذج، ومن خلال شهادات الفلسطينيات اللواتي ساهمن في النضال والبناء وتحقيق المكاسب، ليس هناك افضل من كتاب 'المقاومة والتغيرات الاجتماعية ـ شهادات حية للمرأة الفلسطينية في لبنان (1965ـ1985)'، للباحثة ونائبة رئيسة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية سابقا، جهان الحلو. اذ ان كل كلمة وشهادة في الكتاب تشكل درسا وتوثيقا لاغنى عنه. وهو مصدر نادر لانه يوثق في515 صفحة التاريخ، المعرّض للنسيان، للمرأة الفلسطينية في حقبة زمنية مهمة، ويمنحنا، نحن العراقيات، درسا في اهمية التدوين، بعيدا عن التواصل الشفهي، على اهميته. وكما تذكر جهان الحلو لأن 'تاريخ الشعوب قد يكتب عدة مرات او يكتبه المنتصر او المستشرق. وقد تطمس الكثير من الحقائق ان لم يتول كل شعب جمع التجارب والوثائق وتدوين ذلك التاريخ. فينطوي ما ينطوي ويندثر مع من استشهد او غاب من المناضلين'. وهو درس يبين بدء مشاركة الفلسطينية في المقاومة وما حصلت عليه من خلالها. تقول جهان في المقدمة ملخصة تطور مساهمة المرأة 'لم تكن البدايات سهلة لجماهير النساء فالقيود الاجتماعية كانت تكبل المرأة وتكرس دونيتها، اذ كانت المرأة مضطهدة من الرجل في منظومة من العادات والتقاليد البالية المهينة لانسانيتها... وابتدأت المرأة تأخذ دورها جنبا الى جنب مع الرجل وانتقلت من كونها أما وزوجة وأختا وابنة الى كونها مناضلة في نفس الخندق مع الرجل... كانت المرأة في كل المواقع. تتأقلم مع متطلبات النضال، وفق متطلبات الحاجة واولويات المرحلة... وكذلك اندفعت المرأة للتدرب على السلاح. كما انخرطت في الاراضي المحتلة في العمل ضد الاحتلال الصهيوني'. وتلخص لنا احدى الشهادات اهمية المقاومة واحد الاسباب المهمة التي دفعت المرأة الى الانضمام اليها: 'عندما ظهرت المقاومة فرحنا كثيرا ورفعنا رأسنا. البنات شاركن بالمقاومة لانها رفعت معنويات الشعب الفلسطيني وقد أحسست بكرامتي كامرأة من خلال المقاومة'. وبقيت النسوة يكررن في شهاداتهن مفردات الكرامة والهوية الوطنية وكيف ساهمت المقاومة في 'ابراز الهوية الوطنية وتعزيز الشعور بالكرامة والفخر والثقة بالنفس'. كما نقرأ في الشهادات (مجموعها 53 شهادة) عن صور رائعة من البطولات والمبادرات 'كيف اخترقت النساء الطريق الخطرة للوصول لتل الزعتر المحاصر. وكيف شاركت عسكريا في المناطق الساخنة في الجنوب وبيروت والشياح وبرج البراجنة وحي السلم وغيرها. نقرأ عن دور النساء في لملمة الجراح بعد اجتياح بيروت واحتلال الجنوب في 1982، وعن بطولات خرافية لعشرات النساء اللواتي استشهدن وهن يحملن الاكل والادوية للمخيم المحاصر. هناك، ايضا، شهادات عن مبادرات النساء في العمل على صمود المقاتلين في تل الزعتر- المية ومية - الشياح، او عن قيام النساء بحرق الخيم التي قدمتها الأونروا لسكان عين الحلوة بعد اجتياح اسرائيل، رفضا لها. وصولا لمعجزة النساء اللواتي اعدن بناء مخيم عين الحلوة. اكبر مخيمات لبنان بعد ان تم تدميره بالكامل من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي'. في الوقت نفسه، وعلى الرغم من كل الصعوبات الاقتصادية والسياسية، ساهمت الام الفلسطينية 'في الحفاظ على الهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي وفي الكفاح من اجل العيش المشرف'. ولا تكتفي المؤلفة بتسجيل الشهادات الساردة للبطولات فحسب بل تطرح سؤالا في غاية الاهمية عن وضع شاهدنا مثيلا له في الجزائر اثر التحرير. اذ تمت اعادة المرأة الى موقعها السابق لمرحلة المشاركة في النضال، بدلا من تحويل المكتسبات التي احرزتها وهي تقاتل جنبا الى جنب مع الرجل الى تشريعات قانونية توفر لها المساواة. وانكر عليها الدور القيادي الذي يمكنها من المساهمة في التغيير. تتساءل جهان الحلو: لماذا بقيت المرأة في الظل ولم تصل موقع القيادة، لماذا حرمت من حقها في المشاركة السياسية المتناسبة مع أهمية دورها؟ تطرح الباحثة في تحليلها جملة اسباب يمكن تلخيصها بغياب الرؤية الثورية للتغير الاجتماعي لبناء مجتمع قائم على العدل والمساواة. وأنه لم يتم طرح اية قضية لها علاقة مباشرة بالمضمون الاجتماعي من قبل منظمة التحرير بالاضافة الى الفترة القصيرة في عمر المقاومة والمليئة بالتحديات وكون هذا الموضوع، برأيهم، يعالج بعد التحرير. كما لم يطرح اي من التنظيمات برنامجا خاصا بالمرأة وبقضايا الاسرة وبقانون الاحوال الشخصية، وكأن قضية المساواة بين المرأة والرجل قضية مسلم بها! وعندما تم تقديم وثيقة لحقوق المرأة لم تناقش بذريعة 'القضايا السياسية الساخنة' و'اولوية ترتيب البيت الفلسطيني' واعتبرت الوثيقة من الكماليات. وقد سادت الفوضى، احيانا، 'في ظروف الحرب الاهلية في لبنان وسيطرة سلطة الثورة. وكأنه لا مرجعية لضبط الامور بما الحق الظلم بالزوجة والاطفال وحاول بعض الرجال التنصل من مسؤولياتهم والتزاماتهم بدفع النفقة او السماح للزوجة بحضانة الاطفال'. وتشير احدى الشهادات الى ان النساء انفسهن لم يكن يمتلكن رؤية مستقبلية واضحة بسبب الوضع الأمني الخطر، اذ جاء في الشهادة: 'لم يتح لنا وجودنا الدائم في مرمى نيران العدو ترف مسألة استلاب المرأة وقضية تحريرها ورغم ان المسألة طرحت نفسها علينا منذ البداية الا ان الآراء كانت متباينة بين النساء انفسهن'. وهي أشكالية كبيرة ومعقدة عانت منها معظم حركات التحرير الوطنية. وما هو دور الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية الذي عرفه العالم وجها للمرأة الفلسطينية؟ هناك الايجابيات والمعوقات المتداخلة في معظم الاحيان. لقد حاول الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في مؤتمره الثاني اضافة قضية الربط بين قضية التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي غير انه لم يبلور برنامجا محددا للقضايا الاجتماعية. وكان لفرع لبنان، موقعه الخاص بحكم قربه من 'حركة تحرير المرأة العالمية وخاصة تلك التي بدأت تؤكد على اهمية ربط قضايا تحرر المرأة بالقضايا السياسية وقضايا المجتمع. لكن الاتحاد رفض صيغ الحركات الانثوية البحت وخاصة تلك التي ركزت نضالها آنذاك ضد الرجل كونه رأس الهرم البطريركي'. ولم يكن موقف عضوات الاتحاد واحدا من قضية تحرر المرأة وذلك لانتمائهن الى خلفيات ايديولوجية وثقافية مختلفة انعكست بدورها على مسار عمل الاتحاد فاليساريات، مثلا، كن 'يؤمن ان اضطهاد المرأة ثلاثي الابعاد: الاضطهاد الوطني والذكوري نتيجة النظام البطريركي والاضطهاد الطبقي. فيما النساء الليبراليات لم يؤمن بالاضطهاد الطبقي ولا يعني انه ضمن الاتجاهات الليبرالية كان هناك تجانس كامل فهناك من اراد الالتزام بالشرائع السماوية وهناك من اراد فتح باب الاجتهاد بحيث تكون هناك مساواة بالارث بين المراة والرجل. ومما لاشك فيه ان تنفيذ الاتحاد لنشاطات تتعلق باهداف الامم المتحدة لسنة المرأة عام 1975 و'عقد المرأة' في السنين العشر التالية والمشاركة بفعالية مؤتمراتها قد ساهم بتطوير وعي المرأة لقضيتها ولحقوقها وباعطائها صوتا داعما'. ومما يجدر ذكره ان اتحاد المرأة كان الاتحاد الفلسطيني الوحيد الذي تحفظ على اتفاقية اوسلو لاحقا، ويعتز الاتحاد بدوره الهام في صدور اول قرار بادانة الصهيونية كحركة عنصرية وذلك في المؤتمر العالمي للمرأة الذي عقدته الامم المتحدة في المكسيك عام 1975 قبل ان تقره الجمعية العامة للامم المتحدة في العام نفسه. هنا نصل نقطة حرجة، يطرح فيها سؤال نفسه بموازاة الصعوبات الهائلة التي واجهتها الثورة الفلسطينية سواء من قبل العدو او التدخلات السياسية العربية او الانقسامات الداخلية وتصاعد الفساد، السؤال هو: هل كان بامكان منظمة التحرير اتخاذ خطوات لضمان حقوق المرأة ومساعدتها على التقدم السياسي والتنظيمي فضلا عن المجتمعي؟ اكدت العديد من الشهادات على انه كان بامكان المنظمة ' تشريع بعض القوانين او وضع الاسس لتطبيقها فقط على اعضاء المنظمة بحيث تحفظ بعض حقوق المرأة كتعدد الزوجات، وان كان محدودا او معاقبة مرتكبي جرائم 'الشرف' ورفع سن الحضانة... لكن غياب الرؤية الاجتماعية اضعف من امكانية تعزيز التحولات الاجتماعية الموضوعية وقلل من امكانية دعم تحرر المراة وتحويل المكتسبات الى قوانين. فالقيادة البراغماتية كانت تتفادى ماسماه ابو عمار 'معارك جانبية' او 'مابدي أطفش (أهرب) المقاتلين' كما قالت احداهن او كما علقت اخرى 'عدم رغبة القيادة باستفزاز الرجعيين والمحافظين الذين يدعمون الثورة'. فلا عجب ان تفقد المنظمة، تدريجيا، ثقة المناضلات وابتعادهن عنها. فعدم اتخاذ القرارات العادلة، حتى في أكثر لحظات النضال مع العدو خطورة، غالبا ما يؤدي الى الأحباط وفقدان الثقة بعدالة القضية. اذ ان تحقيق العدالة واتخاذ موقف حاسم من المتجاوزين على الحقوق ليست مسألة خاضعة للتوقيتات التكتيكية. انها مسألة مبدئية لا تقبل التأجيل مهما كانت الذرائع صحيحة في حينها. وتخلص جهان الحلو الى ان 'عملية تحرير المرأة تبقى مجتزأة ومحدودة ولايمكن ان تشمل كافة الجماهير النسائية الا مع تطور المسار التحرري العام، فهي ترتبط عضويا بمسار الكفاح الوطني والمضامين الاجتماعية المرافقة له'. ان قراءة تجارب حركات التحرر، بنجاحاتها واخفاقاتها، تساعدنا على محاولة فهم مرحلة التحرر العراقية الراهنة. وتعلمنا تجربة المرأة الفلسطينية التي ذاقت طعم الاحتلال والمنفى على مدى عقود، إهمية أن تنتبه الحركة الوطنية للمحتوى الاجتماعي وبضمنه حقوق المرأة وحقوق الانسان وحقوق الأقليات، والتصدي للفساد والظلم، دائما وكمبدأ لا يقبل التأجيل، وعدم تغطيته بأولويات المعركة. لقد أدى تأجيل تحقيق العدالة والسكوت على خروقات الحقوق والفساد المالي والمحسوبية والمنسوبية، الى احتضار العديد من الحركات الثورية والتحررية، أو اختزالها الى هياكل تضاهي في قمعها لمواطنيها العدو الخارجي الذي نشأت لتحاربه. لذلك، تواجه المرأة المنغمرة في جبهة النضال المناهضة للاحتلال والاستعمار، فلسطينية كانت ام عراقية، معوقات جسيمة وان اثبتت السنوات الطوال قدرتها على الصمود ومواصلة النضال لتحقيق هدف واحد، لايمكن تجزئته، وهو ان يتحرر وطنها وتنال حقوقها كاملة. ' كاتبة من العراق |