مسيحيو العراق والخطر المزدوج
لم يسبق للمسيحية الشرقية في العراق أن واجهت خطر "الاجتثاث من الجذور" كما يحدث لها اليوم. إنها على أعتاب معركة بقاء، حياة أو موت، ولا شيء آخر. ومن يتابع نشاط المنظمات التبشيرية التي تدفقت على العراق منذ عام 1991 مع نشوء ما يسمى "مناطق حظر الطيران"، سيلاحظ أن مئات البعثات التبشيرية قد اتخذت من الإقليم الكردي قاعدة انطلاق آمنة، وصارت تعمل طليقة اليد، تحت غطاء منظمات إنسانية. وسيلاحظ كذلك أنها تمكنت في وقتٍ قياسيّ، بفضل المساعدات والتسهيلات غير المحدودة التي قدمها الحزبان الكرديان، الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة (رئيس الجمهورية) جلال الطالباني، من تحويل مئات الآلاف من المسيحيين في الموصل وكركوك وأربيل والسليمانية إلى المسيحية "الصهيونية" دفعة واحدة. وفي السياق ذاته، تمكنت من تحويل مئات الآلاف من الشبان المسلمين في بغداد والبصرة ومدن الجنوب والوسط إلى "معمدانيين جدد". لكن القصة الكاملة لنشاط هذه المنظمات التبشيرية، لم تبدأ فعليا إلا بعد احتلال العراق، حين ارتبط العمل العسكري للسيطرة على الأرض والسكان، بتنفيذ أكبر عملية تلاعب بالثقافات والشعوب والأديان في المنطقة، إذ فور دخول قوات الاحتلال الأميركي مدينة الناصرية في مطلع نيسان/أبريل 2003، تمّ على عجل تنظيم أول اجتماع علني للمعارضة العراقية بزعامة أحمد الجلبي. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، تدور في العراق فصول مأساة لم يلتفت إليها أحد. وفيما يتصل باجتماع "أور" هذا، فإن مضمون وجوهر "الاجتثاث" لم يكن ليتعلق بتصفية إرث حزب سياسي حكم العراق طوال خمس وثلاثين عاما، فتلك مسألة أخرى ربما أقل أهمية وخطورة مما جرى تاليًّا دون ضجيج أو احتجاج، بل بتحوّل "الاجتثاث" نفسه، من فكرة سياسية إلى فكرة دينية، ليس موضوعها الرئيس حزب البعث، وإنما الإسلام والمسيحية على حدّ سواء، أي التاريخ الثقافي للمجتمع بأسره. وبطبيعة الحال، فليس صحيحًا ما يشاع في وسائل الإعلام، من أن "التنصير" يستهدف المسلمين وحدهم، أو أنهم الموضوع الرئيس لحملات "التحويل الديني" المحمومة التي تقوم بها مئات المنظمات التبشيرية، بل الأدق أن المسيحيين هم المادة الرئيسة في هذا التحويل. وهذا أمر قد يبدو مثيرًا، فلماذا وكيف ولأي غرض يجري "تنصير المتنصرّين"؟ في هذا النطاق المحدود من الحقيقة المسكوت عنها، يجب أن يلاحظ المرء، كيف أن الكنيسة المسيحيّة العراقية (التاريخية) باتت مستهدفة بشكل مكشوف من جانب الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية) الغربية، لتحويل كل مسيحيي العراق والشرق عمومًا ونهائيًّا إلى أتباع لكنيسة واحدة، منتصرة هي كنيسة "المسيحية الصهيونية الجديدة". إن "صَهْيَنَة" المسيحية الشرقية العراقية بات الهدف المركزي لنشاط الجماعات التبشيرّية. ولذلك، ليس دون معنى أن بيلي غرام، وريث فرانكلين غرام الذي يقود أضخم مؤسسة تبشير مسيحي في العالم، وقف بعد احتلال العراق بأيام فقط، ليقول أمام أتباعه بنبرة المنتصر: آن الأوان لإطلاق الحملة المسيحية "لتنصير العراقيين جميعًا"، وأنه قرر لأجل هذا الغرض، أن يرصد ملايين الدولارات للمساعدة على "فهم أفضل للسلام مع الرّب". وكانت تلك أولى إشارات الشروع في أكبر حملة "تنصير" في هذا البلد التعيس الحظ. لقد عثرت الحملة الأميركية لتنصير العراقيين على ضالتها في البعد الرمزي والروحي لأطلال مدينة أور"الكلدانيين"، حيث ترفرف هناك أطياف الأب الأعلى للعرب المسلمين والمسيحيين واليهود إبراهيم (عليه السلام). وهذا هو مغزى عقد أول اجتماع للمعارضة في الساعات الأولى للاحتلال، فهو المكان الأكثر رمزية لإطلاق حملة تنصير كبرى، يمكن أن تبدأ من الجنوب "الشيعي"، وأن تصبح فرصة ذهبية من أجل "فتح نافذة للكتاب المقدس في العراق". هكذا، ووسط دوي المتفجرّات والسيارات المفخّخة التي راحت تضرب الشيعة والسنّة كل يوم تقريبًا على حدٍّ سواء وفي مختلف المناطق، وبينما أخذت أنظار العالم كله تنصرف تلقائيًّا إلى هذا الجانب من المأساة الإنسانية المروّعة، ثمة مأساة أخرى كانت تجري دون دويّ أو ضجيج. إنها مأساة الكنيسة العراقية التي تواجه خطر "الاجتثاث" المزدوج، ففي حين يجري ضرب وتفجير الكنائس وتنظيم أعمال قتل بمسدسات كاتمة للصوت وحملات "اعتقال" وخطف، تقوم المنظمات التبشيرية بعمليات محمومة لتحويل المسيحيين إلى الكنيسة الإنجيلية ومع ذلك، لم يعد هدف الحملات مقتصرًا على تحويل المسيحيين وحسب، بل بات موجهًا لتنصير العراقيين جميعًا وتخليص أرواحهم من "الدين الشيطاني". وهذا هو الهدف المركزي للكنيسة المعمدانية الجنوبية (القاعدة الأساسية لداعمي إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية) التي تقود أعمال التنصير، تمامًا كما عبّر عنه مون برادي مسؤول عمليات المجلس الدولي للتبشير. المنظمات التبشيرية التي راحت تتوغل طولاً وعرضًا، بحجّة مساعدة السكان وتلبية المتطلبات والاحتياجات الإنسانية. لقد تكشّف الاحتلال العسكري في أحد أوجهه، عن كونه "حملة تبشيرية كبرى" بأدوات حربية، بينما تجلّت حملة التبشير نفسها في كونها "عملا من طبيعة عسكرية" وذلك مع تصاعد عمليات قتل وخطف المسيحيين. لكنهما معًا، الاحتلال العسكري وأعمال التبشير، يبرهنان بقوة على أن الهدف المشترك هو التلاعب بالأديان والثقافات والشعوب، وأن المسلمين والمسيحيين هدف واحد بين جملة أهداف.
وكان أمرًا غريبًا ولافتًا، أن هذا الاجتماع اختار الموقع الأثري الشهير في التاريخ الإنساني: أطلال مدينة أور الكلدانيين التي يقال إنها موطن النبي إبراهيم (حسب المزاعم الاستشراقية في تفسير النص التوراتي) لإطلاق إشارة البدء في مخطط التلاعب هذا. ومعلوم أن هذا الاجتماع صادق على فكرة "قانون اجتثاث البعث" والإعلان رسميًّا عن حل الحزب الحاكم. وتلك كانت إشارة لا تماري فيها العين إلى أن الأهداف العسكرية والثقافية و"الدينية" تترابط بشكل وثيق. "
ليس صحيحًا ما يشاع في وسائل الإعلام، من أن "التنصير" يستهدف المسلمين وحدهم، أو أنهم الموضوع الرئيس لحملات " التحويل الديني" المحمومة التي تقوم بها مئات المنظمات التبشيرية، بل الأدق أن المسيحيين هم المادة الرئيسة في هذا التحويل
"
ويتضح هذا الهدف بجلاء، حين نمعن النظر في مضمون التلازم بين الاحتلال العسكري الأميركي، وتدفق مئات "
تكشّف الاحتلال العسكري في أحد أوجهه، عن كونه "حملة تبشيرية كبرى" بأدوات حربية، بينما تجلتّ حملة التبشير نفسها في كونها "عملا من طبيعة عسكرية" وذلك مع تصاعد عمليات قتل وخطف المسيحيين
"
وفي الكتاب الممتاز الذي وضعه الصحفي اللبناني خضر عواركة (الصهيونية المسيحية من الداخل- بيروت، دار
الهادي 2006) يمكن تتبع خيوط هذه الحكاية التراجيدية يومًا بيوم، والتعرّف بدقة على مضمون "إعادة
التنصير" بالنسبة للمسيحيين، ومضمون تحويل المسلمين إلى الكنيسة الإنجيلية.
ويروي تاريخ هذه الحملات التي بدأت مع الاحتلال البريطاني عام 1917، كيف أن التجمعات اليهودية الصغيرة في الجنوب وبغداد
والبصرة، ضجّت بالشكوى من البعثة الدانماركية التي استخدمت أساليب "خشنة" لإرغام اليهود على التحول إلى "المسيحية
البروتستانتية"، وأن الحاكم العسكري اضطر إلى وقف نشاطات بعض هذه المنظمات بصعوبة بالغة تفاديًّا للحرج.
آنذاك كان أعضاء المنظمات التبشيرية الذين بلغوا عمق الريف، يتسللون إلى داخل مجتمعات الصيادين ومربي الجاموس في الأهوار،
تحت غطاء تقديم "مساعدات إنسانية" طبية وغذائية، وكانوا –كما هو الحال الآن- يخلطون بشكل فاضح بين المساعدات وحمل
السكان على التحوّل إلى المسيحية الإنجيلية، وحتى اليوم، يتداول الفلاحون في الريف العراقي، الطرفة التالية التي تسجل، بشكل نقدي
لاذع ردّ فعل السكان إزاء محاولات العبث بثقافتهم الروحية.
تقول الطرفة، إن فلاحي العمارة -جنوب- وبعد أشهر من التعليم الديني المكثف على يد قس إنجليزي كان يتباهى أمام زملائه بتحويل
الفلاحين المسلمين بسرعة إلى المسيحية، وجدوا أنفسهم يسألون بإلحاح عن "معجزة المسيح الرّب" مع أليغازر، وحين شرح لهم القس بجديّة تامة، كيف أن المسيح أحيا أليعازر بلمسة من يده، ضجّوا جميعًا وبصوت واحد: اللهم صلّ على محمد.
ومع ذلك، فما يحدث اليوم أخطر بكثير من أن ُيواجه بطرفة فلاحية ساخرة.
الفارق الجوهري بين ما جرى بالأمس ويجري اليوم، أن المسيحيين "جميعًا" مثلهم مثل المسلمين جميعًا، باتوا في مواجهة خطر
المسيحية الصهيونية لا المذهب البروتستانتي وحسب، ذلك أن البعثات التبشيرية، ليست بالضبط "منظمات مسيحية" هدفها دعم وتوطيد
أركان الدين المسيحي، بل هي منظمات "المسيحية الصهيونية" التي تقوم عقيدتها الروحية على رؤية إسرائيل كمصدر للخلاص
الإنساني، وأن دعمها يصبّ في الهدف الروحي الأسمى: مساندة المخلص. وبالطبع، فقد عرفت المسيحية الشرقية في تاريخها أشكالاً
من التحديّات الدينية والفلسفية وحملات القتل والاضطهاد، لكنها لم تواجه قط، خطرًا شبيهًا بالخطر الراهن.
إنه نمط جديد من "الاجتثاث من الجذور" لم تواجهه الأديان والثقافات في المنطقة من قبل. ولأن خطر التبشير شبيه بخطر الإعصار،
فهو يضرب في كل مكان ودون تمييز؛ فإن للمرء أن يسأل عن الأثر المدمر الذي يمكن أن تخلفه هذه الضربات، وحيث يتجول
المبشرّون بحرية تامة في مدن الوسط والجنوب وبغداد والموصل، ليوزعوا ملايين النسخ المجانية من الكتاب المقدس، أو تقديم دروس
دينية بانتظام لآلاف الشبان والأطفال المسلمين في المدن والأرياف والبوادي، وتشجيعهم علنًا على التخلي عن الإسلام "الشرير" و
"الدموي" و"الإرهابي" و "الظلامي" والانتقال إلى "مسيحية" خلاصيّة جديدة. والمثير للاهتمام في -بلد مسلم مثل العراق- أن
الدروس الدينية التي تقدم للشبان الصغار تركز، بصورة رخيصة على تقديم الإسلام كمرادف للقاعدة، ونبي الإسلام (صلى الله عليه
وسلم) كملهم للأشخاص "الانتحاريين" المتوحشين.
إن فهمًا عميقًا لهذا التلازم المريع بين أعمال القتل التي تطال المسيحيين، والحملات الرامية إلى تحويلهم إلى "المسيحية الصهيونية"
واتساع رقعة "تنصير المسلمين" يتطلب رؤية الحقائق التالية في الحالة العراقية:
أولاً: إن أعمال القتل والتهجير المنظّم، سوف تؤدي -إذا لم يجر عمل حثيث وجاد في سبيل وقفها والحدّ منها- إلى تفكك "المسيحية
التاريخية" مع الوقت، وإلى هوان وضعف ثم تلاشي ثقافتها الروحية، بما يمهد السبيل أمام "مسيحية جديدة" قادمة من وراء الحدود،
قادرة ومهيأة للعب دور مهيمن على التاريخ والثقافة، وهذا وضع شبيه ومماثل لما حدث في القرن الثالث والرابع الميلادي، حين وجدت
المسيحية الشرقية على المذهب النسطوري -في العراق وفارس- نفسها في مواجهة "الكثلكة" الرومانية -البيزنطية القادمة بقوة
الإمبراطورية وسطوة الجدل الفلسفي الإغريقي حول شخصية السيّد المسيح، وكان موضوعها المركزي الانتقال من الناسوت إلى
اللاهوت (أي القبول بالقوة والبطش بمذهب الطبيعة الواحدة في شخصية السيّد المسيح كرّب ونبذ الهرطقات الشرقية القائلة إن المسيح
من طبيعتين متلازمتين، فهو إنسان وإله).
لقد لعب النصارى العرب، المقاتلون منهم والرهبان على حدّ سواء، دورًا حاسمًا في صدّ "مسيحية روما" القديمة -ثم بيزنطة- ومنعهما من التغلغل والتسلل إلى داخل الكنيسة الشرقية، واليوم يتعيّن على المسيحيين العراقيين أن يقاتلوا في سبيل صدّ مسيحية روما الجديدة "المتصهينة" ومنع اقترابها من أعتاب كنائسهم.
"
لعب النصارى العرب، المقاتلون منهم والرهبان على حدّ سواء، دورًا حاسمًا في صدّ "مسيحية روما" القديمة -ثم بيزنطة- ومنعهما من التغلغل والتسلل إلى داخل الكنيسة الشرقية، واليوم يتعيّن على المسيحيين العراقيين أن يقاتلوا في سبيل صدّ مسيحية روما الجديدة "المتصهينة" ومنع اقترابها من أعتاب كنائسهم
"
ثانيا: إن حملات "إعادة التنصير" هذه، تهدف بالدرجة الأولى إلى خلق جيل جديد من الأصوليين المسيحيين المؤمنين بواجب الدفاع عن إسرائيل "المقدّسة"، يمكن ويجب أن تكون مهمته التغلغل في العالم العربي وأن يكون مستعدًّا للعب دور "المبشّر المحلي".
ثالثا: إن خلق هذا الجيل الجديد من الأصوليين المسيحيين العراقيين، وهو خليط من "مسيحيين ومسلمين سابقين" سوف يلعب في المستقبل دورًا مدمرًا، وكما لاحظ خضر عواركة في كتابه الممتاز فإن آلاف الشبان المسلمين المتحوّلين بالتبشير الجديد إلى المسيحية الإنجيلية، ممن شاهدهم في مونتريال وديترويت وهم يتجولون في الشوارع رغم الصقيع والبرد القارص، لم يكونوا مجرد صيد سهل لشبكات التنصير وحسب، بل كانوا -كما لو أنهم تحت تأثير التنويم المغناطيسي- يقومون بحماسة مفرطة بتوزيع نداءات مكتوبة لدعم الاستيطان الصهيوني في فلسطين؟
الصيد الثمين بالنسبة للجماعات الإنجيلية، ربما لا يكون دومًا في الشوارع الباردة هناك، بل وتحت وهج شمس الشرق هنا، وحين تفتح نافذة أخرى للكتاب المقدس.. في مكان آخر؟