تفاصيل الواقع العراقي بعد ست سنوات من الاحتلال
2009/03/21
لننظر الى خارطة العالم، ونسأل عما تثيره في الأذهان الصورة التالية: استخدام القوة العسكرية لاعادة رسم خريطة بلد ما وتشكيل 'حكومة ديمقراطية'، تأسيس فرق للموت وتعميدها كقوات شرطة ومخابرات وألوية جيش، استخدام الطرق الأشد بشاعة في الاعتقال والتعذيب والقتل، اغتيال رجال الدين والعلماء والاكاديميين والصحافيين، اغتصاب النساء في سجون المليشيات، اجراء انتخابات تفوز بها حكومة لاتحيد عن صراط المصالح الامريكية الاستراتيجية في البلد والمنطقة، جلب آلاف 'الخبراء والمستشارين الامريكيين' الى البلد لادارة الشؤون من وراء قناع حكومي محلي، تشكيل قوات أمن وجيش جديد وتدريب قواتهما من قبل القوات الامريكية، ارتكاب الجرائم وبضمنها مذابح الابادة خلافا لكل القوانين الدولية، غض الطرف عن الجرائم المرتكبة من قبل الحكومة المحلية ودعمها عند الضرورة خلافا لكل القوانين الانسانية الدولية، تنفيذ هذه الجرائم والعمل على استمراريتها بكل الطرق بحجة وجود جهات ارهابية في البلد المعني تشكل تهديدا على امن وسلامة واستقرار امريكا والعالم كله.هل تثير تفاصيل هذه الصورة، في الاذهان، واقع العراق في بداية العام السابع من الاحتلال؟ الجواب هو نعم ولا. فهذه الصورة هي واقع العراق المحتل اليوم الا انها، في الوقت نفسه، صورة نتائج التدخل العسكري الامريكي في العديد من دول العالم. انها صورة السلفادور وبقية دول امريكا اللاتينية وبناما وتاهيتي وعشرات الدول الاخرى، يجمعها مع صورة العراق، المستنسخة حرفيا تقريبا، جشع الامبريالية الامريكية وعبودية الحكومات العميلة وجرائم فرق الموت المتعاونة جميعا، بمستويات متعددة ومتشابكة بشكل معقد، تحت مسمى نشر 'الديمقراطية'. الديمقراطية التي بات مذاقها المر يثير الغثيان.واشارتي الى السلفادور بالتحديد لعاملين. الأول هو اعلان نتائج الانتخابات العامة فيها أخيرا والثاني هو كونها احدى بلدان امريكا اللاتينية التي عاشت على مدى عقود، في ظل الحرب الأهلية او التهديد بقيامها، ومن ثم تباطئها أو تسريعها حسب حاجة الادارة الامريكية وحكوماتها العميلة، وكما يحدث حاليا، في العراق.بالنسبة الى العامل الاول يأتي فوز اليسار في انتخابات السلفادور، اخيرا، تأكيدا لقوة اليسار ودحرا للسياسة الامريكية. فها هو اليسارالمناهض للامبريالية الامريكية يعود الى الحكم، كما في فنزويلا، وبوليفيا، ونيكاراغوا، وبدرجات أخرى في بقية دول أمريكا اللاتينية، وبعد ما يقارب الثلاثة عقود من محاربة امريكا المستمرة له، وبعد عقود التدخل الامريكي، عبر مساندة الحكومات الداعمة للسياسة الامريكية ماليا وسياسيا واعلاميا، مما يدل على ان الفكر اليساري المناهض للامبريالية وتوسعها الجشع على حساب الشعوب، لم يمت كما يتوهم البعض وبضمنهم الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان سكرتيره العام، من اوائل المهرولين لعرض خدماتهم على المحتل الامبريالي. ان خفوت الصوت لا يعني انعدامه او تلاشيه. كما تدل انتصارات الحركات اليسارية في امريكا اللاتينية ومواقفها الصريحة الواضحة بجانب مقاومة الشعوب ضد الاحتلال، كما في فلسطين والعراق، بان قاعدة البناء المستقبلي لأي بلد كان في العالم، لن تكون راسخة ما لم تستند الى مفاهيم نيل الحرية وتحقيق العدالة والمساواة ومحاربة الاحتكار والهيمنة الاستعمارية باشكالها المختلفة ومهما كانت مسمياتها. ولا يشكل العراق استثناء لهذا المسار على الرغم من تهافت أمريكا ومستخدميها المحليين على محاولة تقطيع أوصاله لتسهل عملية ابتلاعه.أما العامل الثاني فهو تأسيس فرق الموت من قبل سيئ الصيت جون نيغروبونتي في الثمانينات، في امريكا اللاتينية، بدءا من هندوراس وغواتيمالا وانتهاء بالسلفادور، لاغتيال كل من تسول له نفسه معارضة التمترس الامريكي في البلد. فكان اغتيال القس الاشتراكي المدافع عن حقوق الفقراء اوسكار روميرو، واحدا من جرائم فرق الموت التي تجاوز عدد ضحاياها عشرات الآلاف في السلفادور لوحدها.وقد تم ذلك كله بتدريب واشراف ودعم الولايات المتحدة الامريكية حسب الوثائق المنشورة وباعتراف عدد من المسؤولين الامريكيين وتقارير المنظمات الدولية. ولأن فرق الموت مدعومة من قبل اكبر قوة عسكرية في العالم وتستخدم نخبة من القوات الخاصة وعتاة المجرمين المدربين على مهمات عدة من بينها تنفيذ الاوامر بالقتل، والقتل بطريقة بشعة تروع المواطنين وتثير الشك والتفرقة في صفوفهم، غالبا ما تمر جرائمها بلا تحقيق او مساءلة قانونية ثم تنسب مسؤولية الجرائم الى الجهة التي تستهدف الادارة الامريكية تشويه سمعتها وابعاد ابناء الشعب عنها. وتتفنن فرق الموت في ايجاد اساليب لا تخطر على بال الناس العاديين في القتل والتعذيب لترسخ صور المعاناة والخوف في أذهانهم وكذلك زرع بذور الشكوك المخربة في صفوفهم. ففي تاهيتي، استخدمت فرق الموت طريقة قطع الأطراف بواسطة المنجل وترك الضحايا في الاماكن العامة ينزفون حتى الموت. وفي العراق، استنبطت فرق الموت، التي انبثقت برعاية مؤسس فكرة فرق الموت، السفير الامريكي جون نيغروبونتي، وشملتها رعاية امريكا والحكومة العميلة، اساليب مروعة في التعذيب والقتل وتقطيع الاجساد، فنجحت في تهجير وترحيل ما يقارب الخمسة ملايين مواطن، خلال فترة زمنية قياسية، لم يشهد لها العالم مثيلا. وكما يدل تاريخ فرق الموت في امريكا اللاتينية وحاضرها الذي عايشناه في العراق، ان عملها لا يقتصر على القتل والتعذيب فحسب بل ويشمل، ايضا، الاختطاف واغتيال الشخصيات السياسية والعلمية والمجتمعية، والتفجيرات المستهدفة للاماكن المزدحمة. وتشجع الادارة الامريكية، على اختلافها، فرق الموت باعتبارها واحدة من آليات العمل الضرورية لنشر الديمقراطية. لذلك رأينا ادارات البيت الابيض المتعاقبة تستخدمها باخلاص ومن بينها ادارتا ريغان وبوش. وتلجأ الادارة الامريكية، غالبا، الى التضليل الاعلامي وتقليل اهمية التدخل في شؤون الدول وامتهان سيادتها، وتوفير الحماية القانونية لافرادها ولمستخدميها، لغرض تفعيل مهمات فرق الموت، حسب الطلب وكلما نشأت الحاجة اليها.ولعل هذا هو أحد اسباب اطلاق مسؤولي قوات الاحتلال العسكريين والسياسيين، التحذيرات المتتالية بأن 'الأمن هش'. انه سلاح ذو حدين. فهم بحاجة اليه لابقاء حالة القلق والخوف وعدم الاستقرار، خاصة في صفوف المتعاونين معهم، ليطالبوهم بالحماية والبقاء وعدم الانسحاب، كما صرح الرئيس الامريكي اوباما وتلته جوقة العملاء، الا بطريقة 'مدروسة'. وهو مفيد لتحضير الارضية لتفعيل عمل فرق الموت من جهة ثانية. من هذا المنطلق، بامكاننا فهم طبيعة التحسن الامني المفاجئ المتماشية مع تحولات المالكي الكافكوية السريعة وكأن هناك جهة ما قد قامت باغلاق صنبور الجرائم والمجازر. كيف توقفت جرائم رمي الجثث المشوهة والاشلاء المتناثرة بعد التعذيب والتقطيع في شوارعنا وانهارنا وقرب اكوام القمامة والمجاري؟ من الذي اغلق حنفية الدم والقتل المنظم وبوجود وتحت انظار قوات الغزو والوية العملاء من قوات الشرطة والامن؟ أين هو لواء الذئب المؤسس حسب تراتبية فرق الموت في السلفادور، وماذا عن بقية فرق الموت والميليشيات التي زاد عدد ضحاياها، بالاشتراك مع قوات الاحتلال، على المليون؟ لقد انغمرت الحكومات العميلة، صنيعة امريكا، في امريكا اللاتينية، بارتكاب مجازر لم يشهد لها مواطنو تلك البلدان مثيلا، الى حد دفع الكثير من الناس، كما يفعل بعض المثقفين العراقيين اليوم، الى القاء اللوم على النفس وجلد الذات والقبول بمفهوم ان القسوة متجذرة في الشعب نفسه، مما يدفع ابناء الشعب الى قتل بعضهم البعض. ويتسابق عدد من مثقفي الاحتلال العراقيين في البحث، بعين واحدة، عن أمثلة القسوة في تاريخنا لتعميمها حاضرا ومستقبلا، لتقديم نظرية متكاملة عن ' تخلف العراقي وقسوته وهمجيته'، لئلا يشعروا بعار التعاون مع المحتل.لقد بذلت حكومة ريغان حسب الصحافي الامريكي مارك كوبر كل ما في امكانها لتجعل من السلفادور جناحا آخر من اجنحة الخدم لمصالحها الآنية والاستراتيجية، وصرفت الملايين واسست فرق الموت الا انها فشلت في القضاء على حركة المقاومة، التي اطلقت عليها اسم الارهاب، كما تفعل مع كل حركة مقاومة وتحرير اليوم. ومن بين صفوف تلك المقاومة برز رئيس السلفادور اليوم، وكذلك رئيس نيكاراغوا.ان نهوض حركات التحرر وبضمنها التيارات الإشتراكية واليسارية، ظاهرة عالمية. ولا شك أننا في سبيل تلمسها في العراق وفي البلدان العربيةالأخرى، مادامت تعمل لتقوية ودعم مجموع القوى الوطنية وجبهة مقاومة الإحتلال والاستعمار الجديد