ليكن 20 آذار يوم الشهيدة العراقية يوم عبير ومها
كما اعتادت أدبيات سياسية واقتصادية على التمييز بين مجتمعين , مجتمع متخلف , ومجتمع متقدم . وفي الأدبيات التي تعنى بقضايا المرأة يتم تبني معادلة تقول أن المرأة تعكس صورة مجتمعها .
إذن نستطيع استعارة هذه القاعدة لنقول أن وآد المرأة في مجتمع
الجاهلية يعكس صورة مختلة أو مريضة لهذا المجتمع , كما أن سبي
المرأة وتحويلها إلى جارية يعكس صورة مختلة أو مريضة للمجتمع
الذي يمارس فعل السبي تعبيرا عن السطوة والهيمنة والانتصار .
ربما علينا أن نعيد تعريف الهشاشة ووسم المرأة بها . هل لأن الرجال هم الذين يقودون " الغزو والسبي " ولأن النساء هن اللواتي يخضعن للسبي ؟ ؟ وهل لأن المرأة الواقع عليها فعل السبي تعد أكثر هشاشة ؟ ؟
في أخلاقيات الغزو والاستعمار قديما وحديثا يتعرض المجتمع كله للعدوان والانتهاك .
ومن علامات الغزو : السرقة , النهب , القتل العشوائي , التدمير , الأسر , التعذيب , انتهاك ثوابت المجتمع وأخلاقياته , الاستخفاف بقيمه , التحكم بإرادته , مصادرة وعيه ,الهيمنة على مصيره , ومقدراته ومستقبله , السعي لإلغائه . لا جديد في توصيف أخلاقيات الغزو , ولسنا بحاجة إلى إعادة توصيفه إلا بالقدر الذي تتطلبه ملفات الغزاة عبر التاريخ في سياق الحاجة إلى تحديث المعلومات المرصودة تراكميا .
منذ غزوات الجاهلية إلى غزو العراق يوم 19 – 20 آذار – 2003 فإن الغازي هو نفسه بالمعنى التاريخي . والأطماع الاقتصادية والتوسعية تقف وراء هجمات الغزاة والمحتلين , وترتبط الأطماع بثروات البلدان والأقاليم التي تثير جشع الغزاة , كما أن الموقع الجغرافي يلعب دورا في أسباب كثيرة للغزو . أما المجتمع الذي يتكون من نسائه ورجاله فإنه تاريخيا يقف عائقا في طريق الغزاة , إذ ثمة سمة أخلاقية تدفعه لأن ينتج المقاومة سلاحا يدافع بها عن أرضه ووجوده ضد الغزاة .
المجتمع قبل المرأة :
في واقعة الغزو فأن المجتمع هو الذي يتعرض للعدوان والانتهاك لكسر شوكة مقاومته , وفي واقعة المقاومة فإن المجتمع هو الذي يندفع بابتكار وسائله لكسر شوكة الغازي وتحطيم إرادته . وإذا ما خضع المجتمع فإنه صورة لخنوع طرفي المعادلة التي تشكله وتكونه , وإذا ما انتصر المجتمع فإنه صورة لانتصار طرفي المعادلة التي تشكله وتكونه . بهذا المعنى فإن المجتمع هو المستهدف بالغزو قبل المرأة , وإن المجتمع هو موضوع الانتصار قبل الرجل .
فلماذا كانت الأنثى – إذن – هدف الوأد في مجتمع الجاهلية , ولماذا كانت عبير ومها " كنموذجين " هدف الوأد في " مجتمع الاحتلال " إن صح التعبير ؟ ! .
الإرادة بمعنى الحرية :
الغزاة يستهدفون إرادة المجتمع , بانتهاكهم لكرامة الرجال والنساء. أليس استعباد البشر صناعة استعمارية ؟ وأليست المتاجرة بالرقيق الأبيض إحدى نتاجات مجتمع " التنافس الرأسمالي " وقوانين اقتصاد السوق ؟
وأليست فضائح " أبو غريب " صورة للغازي , ألم يكن عدد المنتهكين من الرجال أكبر من عدد المنتهكات من النساء ؟ .
إن الغزاة " مجندرين " في عدوانهم أن صح التعبير ولكن لماذا عبير ومها ؟ .
إن للأنثى خاصية الإنجاب أي خاصية إدامة المجتمع بالنسل البشري , فهي الحاضن له , هي الأرض , وهي البيئة الصحية لنموه . فتكسب الأنثى بهذه الخاصية صلابة مميزة عن الذكر حسم أمرها العلم , وأثبتها في أكثر من مجال .
وبسبب هذه الخاصية فإن الأنثى كانت موضوع الوأد , نعم لم تكن مذنبة , فالمذنب هو المجتمع , ويتمثل ذنب المجتمع بضعفه في الدفاع عن ذاته , وبشعوره العالي بهشاشته , وبالتالي بالخشية المستمرة من الهزيمة , فتمسي " الحرة " بيد الغازي جارية , أما لماذا لا يخشى المجتمع على الذكر , هل لأنه المحارب , فحتى المحارب يؤسر ويسبى ويستعبد , غير أن الذكر لا يملك خاصية احتضان النسل وولادته .
إن خوف المجتمع " الضعيف " على ضياع نسله إذا ما تعرضت النساء للسبي , يدفعه لوأد الحرة , الوأد سلاح من نوع آخر للانتحار الذاتي, يشبه انتحار الساموراي النبيل .
إن المجتمع الهش ينتج معادلات أخلاقية هشة وقلقة , ويضع المرأة في خانة الهشاشة , للتغطية على هشاشته إذا ما عجز عن إنتاج أوالياته ووسائله للدفاع عن نفسه , واستعادة تماسكه لإعادة إنتاج ذاته الحرة .
يوم عبير ومها :
رغم اختلاف جنسية المنتهكين في حادثي اغتصاب عبير ومها إذ أن الطفلة عبير ( 14 عاما ) تعرضت للانتهاك والقتل في المحمودية , في يوم 12 آذار من عام 2006 من قبل جنود الاحتلال , بينما تعرضت الطفلة مها ( 15 عاما ) للانتهاك من قبل مليشيات حمتها قوات الداخلية وتسترت عليها في ديالى في تشرين من عام 2006 , رغم الاختلاف بين جنسية الفاعلين , فإن الدالة واحدة تلك التي تعكس هشاشة المجتمع الذي أنتج المغتصبين القتلة , سواء كان المجتمع الأمريكي انعكاسا لأكثر دولة " متطورة في العالم " أم كان مجتمع المليشيات " انعكاسا " للإقطاعية السياسية التي جاءت وتعاملت مع الاحتلال كمكون من مكوناته .
إن عبير ومها صورتان لحرية المجتمع المراد وأده وكسر إرادته في الصمود والبقاء والدفاع من اجل الوجود والأرض , إلا أن واقعة الوأد لم يمارسها المجتمع هذه المرة وأدا للذات المهزومة ( انتحارا ) للتعبير عن الهزيمة ورفضها في الآن نفسه . إنما مارسها الغازي وعميله وكأنهما يعبران عن نفس قلقة إزاء استشعار الهزيمة أمام فعل المقاومة الذي أنتجه المجتمع ليعبر عن ذات معافاة حرة وإرادة واثقة ووعي بالمسؤولية نحو المستقبل والمصير .
إن عبير ومها نموذجان لشهيدات الحرية . . . إنهما قد جسدتا قلق الغازي وقلق أعوانه , أن المواجهة اخطر من توقعهما , والدافعية عند مجتمع المقاومة تملك مقومات انتصارها , إنها ترتبط بضرورة النصر وحتميته . . . من اجل الحفاظ على الوجود واستمراره , فسلاح الاغتصاب يعكس ضعف العدو وهشاشة دوافعه , والضحية تتحول هنا إلى مضمون الحرية التي مدت المجتمع العراقي مرة أخرى بأسباب استمرار المقاومة , لذا أن اعتماد يوم 20 آذار يوما للشهيدة العراقية يعكس وعي مجتمعنا بجدوى الدفاع عن الحرية عن عبير ومها وكل شهيدات الحرية في العراق . إننا مجتمع غادر جاهلية القبيلة ومفهوم الوأد . بينما تلبس هذا المفهوم مجتمع الغازي الذي اعترف بهزيمته . . واعترف بعاره .