عن أكاذيب مستشاري السلاطين وأعداء الحرية
هيفاء زنكنة
حدثان مهمان يستحقان التوقف عندهما معا على الرغم من اختلافهما ظاهريا. الحدث الاول ثقافي يتعلق بسماح أدريس، رئيس تحرير مجلة 'الآداب' الثقافية المعروفة (نشأت عام 1953) التي تعتبر واحدا من اهم المصادر الادبية والثقافية في العالم العربي، واذا ما تحدثنا عن الادب العراقي بالتحديد فلابد لأي باحث او ناقد ان يمر على 'الآداب' ليكتمل عمله. وأتذكر جيدا بان 'الآداب'، كانت المجلة العربية الوحيدة، التي اصدرت اعدادا خاصة عن الادب والثقافة العراقية في سنوات الحصار الجائر الذي شمل حتى الكلمة المطبوعة. وقد اقام احد الشيوعيين الليبراليين الجدد دعوى ضد مجلة 'الآداب'. ولمعرفة فحوى الدعوى، فلنقرأ ما كتبه سماح ادريس، في صحيفة الاخبار، موضحا، بعد ان أصدرت محكمة لبنانية حكما جائرا ضد مجلة الآداب. يقول سماح: 'نشرتُ افتتاحيّتي المذكورة، موضوعَ الدعوى، وعنوانُها 'نقدُ الوعي النقديّ: كردستان ــــ العراق نموذجاً' في العدد 5/6/2007 من مجلة الآداب. والهدفُ الأوّلُ والأخيرُ منها هو نقدُ 'أدعياء الوعي النقديّ' الذين 'يهاجِمون ظالمين مستبدّين، لكنهم يَسْكتون عن ظالمين مستبدّين آخرين' على ما جاء في خاتمة الافتتاحيّة. وكنتُ قد بدأتُها، ضمن هذا الإطار، بنقد الزملاء أدونيس (فردّ عليّ في جريدة 'الحياة'، التي امتنعتْ عن نشر ردّي، فنشرتُه في جريدة 'الأخبار'، وانتهى الأمر)، وشاكر النابلسي، وبول شاوول، وعلي حرب. ثم عرّجتُ على مهرجان المدى الذي أقيم بين 29 نيسان(ابريل) و6 أيّار(مايو) من ذلك العام في كردستان ــــ العراق، برعاية جلال الطالباني وإدارة 'الزميل فخري كريم'، ودُعي إليه 700 أو 800 مثقّف على ما جاء في وسائل الإعلام. فاستغربتُ أن يذهبَ أكثرُ هؤلاء إلى مهرجان المدى في أربيل وأن يلتقوا بجلال الطالباني من دون أن يتحقّقوا من واقع الأمور هناك، من قبيل: دوْر الموساد الإسرائيليّ، وحقوقِ الإنسان (والمرأة)، ودورِ الحزبين الكرديين الرئيسيين في دمار كردستان بسبب اقتتالهما، وهويّةِ الداعي (فخري كريم) السياسيّةِ نفسِها. وأجريتُ بحثاً دقيقاً كشفتُ من خلاله أموراً كثيرةً أهمُّها: وجودُ الموساد في كردستان وجوداً شرعيّاً (وذلك باعتراف رئيس مكتبه السابق أليعازر جيزي تسافرير، وبالاستناد إلى تحقيقيْن صحافيّين لسيمور هيرش ولورا روزن ومقالاتٍ في صحيفتيْ 'يديعوت أحرنوت' و'هآرتس' الإسرائيليتين)، وتزايدُ جرائم الشرف، وتوقيفُ الصحافيين، واستخدامُ التعذيب ضدّ الموقوفين (بحسب تقرير بعثة الأمم المتّحدة لمساعدة العراق في نيسان/أبريل 2007)، وسوءُ معاملة العرب داخل كردستان. وتوقّفتُ أخيراً في مقطعٍ من عشرة سطور (ضمن مقالي المكوَّنِ من 275 سطراً) عند الزميل الناشر فخري كريم، بوصفه الداعيَ إلى هذا المهرجان الضخم، وبوصفه 'كبيرَ مستشاري' الرئيس العراقيّ المدعوم من الاحتلال الأمريكيّ عقب إسقاط نظام صدّام حسين. فاستهجنتُ ألاّ يكترثَ أحدٌ تقريباً من المثقفين والصحافيين المدعوّين (باستثناء حفنةٍ قليلةٍ كالزميل وائل عبد الفتّاح) لعشرات المقالات والبيانات التي تتحدّثُ عن مصير أموال الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وأموالِ مجلة النهج ودار المدى، ولا عن صلات بعض 'الشيوعيين العراقيين القدامى/الجدد' باستخبارات النظام السابق فضلاً عن استخبارات أخرى عربيّةٍ وغير عربيّةٍ في ما تلى ذلك من عقود. وختمتُ الافتتاحيّةَ بالمقطع التالي: 'إنّ وطننا، الوطنَ العربيّ، في مأساةٍ لا لأننا ابتُلينا بأنظمةٍ مستبدّةٍ فحسب، وبأطماعٍ إمبرياليّةٍ وصهيونيّةٍ متعجرفةٍ فقط، بل لأننا أيضاً إزاء تراجعٍ حادٍّ في الوعي النقديّ الحقيقيّ'؛ ذلك أنّ جزءاً من الوعي السائد يتجلبب بالنقديّة المزيّفة لينقدَ (عن صوابٍ) الديكتاتوريّاتِ العربيّةَ المقيتة، لكنه يَصْمت صمتَ القبور عن 'الديمقراطيّة' الأمريكيّة الجديدة التي أوْدت بحياة مئاتِ الآلاف ويتّمتْ أمثالَهم وقَسّمت العراقَ'. هذا هو ' جرم القدح والذمّ' الذي سيتوجب على الآداب دفع غرامة ستة ملايين ليرة لبنانيّة عنها، فضلا عن مبلغَ مئة ألف ليرة كتعويض رمزيّ للمدّعي فخري كريم وَلي. والكل يعلم ان مجلة الآداب مستقلة تعتمد في ميزانيتها على اشتراكات القراء وليست كمثقفي مستشارية 'صاحب الفخامة الرئيس طالباني'، وهي دائرة تجمع عشرات المهللين لـ 'ديمقراطية العراق الجديد' والمتعامين عن الواقع الاجرامي لها وبميزانية تصل ملايين الدولارات، يعرف الجميع مصدرها وكيفية انفاقها وفي اي البطون تستقر. وليس سماح أدريس هو الوحيد الذي تم جره الى المحاكم بتهمة كهذه فقد سبقه رفع دعاوى على صحافيين وكتاب عراقيين تجرأوا على ان يكونوا مستقلين وان يكتبوا الحقيقة. حيث حكم عليهم بغرامات مليونية كطريقة ' قانونية' لاغلاق الصحيفة اوالموقع. ويتراوح اسلوب تكميم الافواه الحرة ما بين التعجيز المالي للصحيفة او المجلة او الترويع أو التصفية الجسدية. ولا تخلو تقارير المنظمات الحقوقية الدولية من ذكر اسماء صحافيين وكتاب تم الاعتداء عليهم جسديا واختطافهم واعتقالهم وتعذيبهم فضلا عن القتل ومحاولات الاغتيال سواء في اقليم كردستان او بقية ارجاء العراق، وتحت غطاء واسع من التهم، ولعل اكثرها شيوعا هي تهمة ' التحريض على الارهاب' على خطى السياسة الامريكية في 'الحرب على الارهاب'. وهي حرب ذات مفهوم مطاطي، بامكان امريكا ان تشنها كيفما شاءت واينما شاءت، وفقا لمتطلباتها واستراتيجية امنها القومي، وتستند بدرجة كبيرة الى آلية تلفيق الاحداث وتحويلها الى حقائق ضد 'العدو' أي الدول المارقة والإرهابيين الإسلاميين (بعد تلاشي خطر الشيوعية). وتحت هذا الغطاء الشامل، أصدر الكونغرس الامريكي في كانون الاول 2009، قرارا بمعاقبة القنوات التلفزيونية 'المحرضة ضد امريكا' وتحميل البلدان التي توجد فيها المسؤولية. والقنوات المتهمة هي المنار (حزب الله) والاقصى (حماس) والرافدين (هيئة علماء المسلمين)، أي القنوات التي تنطلق منها اصوات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية ضد الاحتلال الامريكي الصهيوني، وكأن الامر الطبيعي في البلدان المحتلة هو خلوها من المقاومة واستقبال المحتل المغتصب 'بالازهار والحلويات'. أما الحدث الثاني فيتعلق بمثنى حارث الضاري، مسؤول المكتب الإعلامي لهيئة علماء المسلمين، الذي اصدرت الخزانة الامريكية قرارا باعتباره 'ارهابيا' واضافت اسمه 'الى قائمة الامم المتحدة للمنتمين لتنظيم القاعدة الى جانب الافراد والمنظمات ذات الصلة بحركة طالبان'. ويأتي القرار في ذات الوقت الذي تعمل فيه الادارة الامريكية على تقديم مشروع جديد ينص على معاقبة القنوات العربية التي تستضيف أي شخص ورد اسمه في 'قائمة الارهاب' الامريكية المكونة من 443 صفحة والتي يحتل معظمها 'اسلاميون متطرفون'. ولن ادخل في نص القرار الخالي من أي دليل لأنه لن يصمد للحظات امام اية مساءلة قضائية وقانونية مستقلة، ولن ادافع عن الضاري كشخصية وطنية مقاومة، الا انني، للنظر في مصداقية الجهة المصدرة للقرار، ساعيد الى الاذهان صورة وزير الخارجية الامريكية السابق كولن باول متحدثا في الامم المتحدة يوم 5 شباط/فبراير 2003 عن اسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها ويطورها العراق، المهددة لامن وسلامة العالم، وكيف أدى الخطاب الملفق شكلا ومضمونا الى شن الغزو على العراق وتسبب بتخريب البلد وقتل ما يزيد على المليون مواطن، بمباركة الامم المتحدة. فهل بامكان اي شخص، في العالم، مهما كانت سذاجته ان يصدق الحكومة الامريكية؟ ومن هو الارهابي في هذه الحالة؟ أليست الادارة الامريكية هي التي يجب ان تحاكم ويوضع اسمها في قائمة الارهاب لارتكابها جرائم حرب وابادة، وهناك اطنان من الوثائق والصور والشهادات المثبتة لذلك؟ ان ما تتعرض له مجلة الآداب جزء من سياسة منهجية لقمع الاصوات الناطقة بالحقيقة في شأن ثقافي يمس صميم مفهوم الثقافة ودور المثقف الحقيقي الفكري النقدي. وقد فشلت المحاولة، اذ بدلا من الصمت والاستسلام، اعلن سماح ادريس عن استئناف الحكم وإعادة نشر المقال ـ موضوع الدعوى الجائرة، معلنا 'تشبثه بكل كلمة جاء فيه، وقراره الاستئناف... لا في المحكمة فقط بل في فضح أدعياء اليسار ومبرري الاحتلال ومستشاري السلاطين وأعداء الحرية'. أما ما يتعرض له مثنى حارث الضاري فهو محاولة لقتل روح المقاومة التي حرص، في مقابلة له مع الجزيرة، على التأكيد بانها 'بكل أنواعها وعلى رأسها المقاومة المسلحة هي أمر مشروع دينيا وقانونيا'، مضيفا بأنهم في اطار القوى الوطنية المناهضة للاحتلال يعملون 'تحت مظلة المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أن الشعوب لها حق في الدفاع عن نفسها إذا ما احتلت'. ' كاتبة من العراق |